كتب – جعفر الديري: العلاقة التي تجمع الآباء بأبنائهم؛ علاقة مقدسة، وجميع الشرائع السماوية؛ تولي عناية خاصة بالوالدين، وتوجب طاعتهم، حيث قرن الله تعالى برّهما بعبادته، فقال عز من قائل في كتابه المجيد {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} صدق الله العظيم. ليس ذلك فحسب؛ بل إن الشرائع الأرضية، والأعراف والتقاليد؛ أوجبت احترام كبار السن وتوقيرهم، وعلى رأسهم الآباء والأمهات؛ اللاتي أحرقن زهرة أعمارهن في سبيل سعادة أبنائهم، ورؤيتهم في أحسن حال. هناك اتفاق إذن على فضل الآباء على الأبناء، وعلى جميل ما أسدوا من اهتمام ورعاية، لا يشوبه شائبة من مطمع أو مصلحة. لذلك تبدو قضايا عقوق الوالدين؛ غريبة في مجتمع بحريني محافظ، عرف منذ القدم بالتدين والسماحة. وما يزيد الأمر غرابة؛ أن الإنسان البحريني، منذ أن يخرج إلى الدنيا وحتى يكتمل نموه شاباً قادراً على العناية بنفسه، يجد الكفالة والرعاية من أبويه، بل يمتد اهتمامهما به إلى أبنائه، بعكس الغربيين؛ الذين يتخلون عن أبنائهم لمتاعب الحياة في سن معينة، ما يخلّف في نفوس الأبناء؛ نفوراً من آبائهم يتحول إلى عقوق. ونحن إذ نطرح مثل هذا الموضوع، لا نرى أن هذه الحالات تمثل البحرينيين؛ بل هي نماذج شاذّة، لأبناء تنكروا لطبيعتهم الإنسانية. لذلك لن نذكر الأسماء الحقيقية لأصحاب هذه الحالات، احتراماً لرغبتها... يعبّر الحاج ... عن ألمه وتعاسته؛ نظراً للحالة الصعبة التي يعيشها، بعد أن كان عزيزاً في بيته. ويؤكد أنه كان ملئ السمع والبصر، إلى درجة أن أصحابه - الذين تخطّفهم الموت واحد تلو الآخر- كانوا يتوقعون له مركزاً مرموقاً. لكنه للأسف دفع زهرة حياته سعياً وراء رزق أبنائه، ولم يحفل بنفسه، وفي النهاية انتهى إلى التقاعد وحيداً دون زوجة أو أبناء. يقول الحاج ...: سأبلغ الخامسة والستين قريباً، وها أنت تراني أجلس في مجلسي؛ وحيداً انتظر الموت؛ ليريحني مما أنا فيه. كانت لي زوجة طيبة ترعاني، وأرعاها، ونجد السلوى في بعضنا، لكن الله عز وجل أخذها إلى جواره. ولي أكثر من ابن وابنة؛ لكنني لا أراهم؛ سوى في المناسبات. ومع أنهم اشتروا لي هاتفاً؛ إلا أنني أنا من يبادر إلى الاتصال بهم، ونادراً ما يتّصلون للسؤال. ويتساءل: ألا يشعر الأبناء بثقل الوحدة على آبائهم؟ ألا يحسون بمقدار ما يشعر به من مرارة وهو وحيد، لا حبيب ولا أنيس؟. أليس ما يقومون به عقوقاً تجاه أب بذل كل ما يملك من أجلهم؟! هل قصرت معهم في شيء؟! لقد تخليت عن طموحاتي؛ من أجل أن أراهم سعداء، وها هم يتنكرون لي، ولا يكلفون أنفسهم حتى السؤال عني ولو عن طريق الهاتف! ماذا أفعل لكي أنبههم إلى ما أنا فيه من تعاسة؟! لقد صارحتهم أكثر من مرة برغبتي بأن يعيشوا معي، أو أعيش مع أي منهم! لكن لم يحفل أياً منهم بتوسلاتي! أستعين بالله عز وجل على قضاء بقية عمري وحيداً. المرض عرّفني معدن أبنائي ذلك نموذج لأب لا يسأل عنه أبناؤه. وهناك نماذج أخرى أشد. إن سيد ... يعيش مع زوجته الثانية؛ بعد أن طرد أبناءه من جواره. وللوهلة الأولى يبدو الطرد فعلاً غير مستحب من أب شفيق بأبنائه، لكن سيد ... يبرر ذلك بأنه لا يرجو خيراً من أبنائه، بل يخافهم، بعد موقف صعب اختبرهم فيه ففشلوا بامتياز. يقول سيد ... : لا شيء أشدّ ألماً على الأب؛ من أن يجد نفسه محتاجاً إلى الرعاية، ولا يجدها من أقرب الناس إليه؛ فإذا كان الأبناء، الذين هم من صلبه، لا يرأفون به، فكيف يأمل الخير من الناس؟! وإذا كان الأبناء لا يقفون إلى جانب أبيهم حتى في مرضه، فمتى سيقفون؟!. ويتابع سيد ... : كنت في صحة يضرب بها المثل، وكنت لا أكلف أبنائي أيّ أمر يخصني، حتى حاجاتي أشتريها من مالي. حتى ابتليت بمرض أقعدني وجعلني لا أستطيع النوم. لكنني مع ذلك كنت أعزّي نفسي بأنني لست وحيداً، مع وجود أبنائي حوالي، وأنهم سيهرعون لنجدتي عند الحاجة، لكن... لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يبكي سيد ... ثم يواصل: كنت فوق سريري، وسمعت جاري يحدّث أبنائي بضرورة إرسالي للعلاج إلى الخارج، فما رأيت إلا قلوبهم القاسية، وأنانية لا خير فيها؛ فهم بدلاً من المبادرة، اتفقوا على أني متقدم في السن، ولا داعي لتبذير المال في حالة ميؤوس منها! هكذا بكل بساطة؟ بعد كل ما قدمته لهم يجازوني هذا الجزاء؟! لن أغفر لهم الألم الذي تسببوا به! سألت الله أن لا “يحوجني” إليهم، وقد وفقني الله تعالى، فصحبني رجل طيب إلى الخارج، وتعالجت حتى شفيت والحمد لله. وها أنا أعيش مع زوجتي الثانية، ولا أرغب برؤية أبنائي العاقّين. من أجل عين زوجته غير أن الحاجة ... مأساتها أكبر، هي وزوجها. فالولد يتنكر لأمه وأبيه من أجل امرأة أوروبية، تعرّف عليها في أحد الأماكن المشبوهة، وتزوجها لجمالها؛ فذلك أمر لا يعلم بشدّته سوى الأم نفسها. الأم التي لا تزال تبكي، متذكرة لياليها التي قضتها ساهرة إلى جانب ابنها، يجفو النوم عينيها، رأفة وحناناً بابنها المريض. تقول الحاجة ... : منذ أن عاد ولدي من الدراسة، وهو إنسان آخر. عاد وبرفقته زوجة أوروبية. دخلت البيت، دون سلام، أو تحية. ورغم أنني لاحظت سلطتها على ولدي تزداد يوماً بعد يوم، وعدم قدرته على ردعها عما ترتكب من أمور لا تمت لديننا ولا لأخلاقنا كبحرينيين بصلة؛ إلا أنني آثرت السكوت، والتزمت الصمت، أملاً بتحسن الأحوال. غير أن زوجة ولدي تحكمت فيه بشكل مخيف. فاكتشفت أنه لا يصلي، ويعاقر الخمر. وله صداقات مريبة، ففي كل يوم يدخل أناس وصبايا جدد، حتى تحوّل البيت إلى جهنم. رغم أنه كان معروفاً بالتدين، وكان صوت زوجي رحمه الله وهو يرتل القرآن يصل لكل من يمر بالبيت. وتضيف: عندما أعيتني الحيلة، ولم أعد أستطيع التحمل أكثر، طالبت ولدي بكبح جماح زوجته، أو البحث عن مكان آخر للعيش، وكنت أتوقع منه الاستجابة أو الرفض في أسوأ الأحوال؛ لكن للأسف، اكتشفت أني ربيت وحشاً لا آدمية فيه، فهو لم يكتف بالصراخ والزعيق، ووقف إلى جانب زوجته التي شتمتني وأهانتني، وهددتني بالطرد من البيت. وعندما حدثتهما في الموضوع مرة ثانية، دفعت بي إلى خارج بيتي. وهو ينظر إلي دون أن يحرك ساكناً، في فمه سيجارته وعلى عينيه غشاوة آمل أن يزيحها الله تعالى عنه. لكنني رغم كل ما لقيت منه ورغم أني أصبحت لاجئة في بيت أخي؛ لا أكرهه ولا أحقد عليه، بل أتمنى له الهداية فهو قطعة مني. لا أم ولا أخت لم يكن الأمر يتطلب منه سوى زيارة لوالدته لكي تغفر له ما سبق من عقوقه؛ لكنه أخذته العزة بالإثم، فلم يذهب إليها رغم أنها في أيامها الأخيرة. ورغم أن ابنتها حاولت التخفيف عنها، إلا أنها كانت تعرف بقلبها؛ أن ابنها لن يزرها أبداً، طالما أنه أسير لحياته الماجنة. غير أن ما يخيفها أكثر هو حالة هذه البنت المسكينة التي ليس لها أحد بعد الله تعالى. كانت تخشى أن تدفعه أنانيته إلى طردها من البيت، والاستيلاء عليه. كيف لا تفكر في ذلك، والابن العاق، لم يعتني بأمه يوماً؟! فهل يتردد في إيذاء أخته؟!. لا مكان للسعادة حتى وهو في هذا العمر؛ لم يسلم من أذية أولاده وأبنائه. لقد تخلوا عنه جميعاً، وعندما أراد الزواج من أخرى، تؤنسه في آخر العمر، كشروا عن أسنانهم الصفراء، ومنعوه من ذلك! بل إن أحدهم هدده بأنه سيتهمه بالخرف. ورغم أنه حاول أن يبين لهم أنه لا يقصد من وراء الزواج؛ سوى معالجة الإحساس بالوحدة التي يعانيها أمثاله، مؤكداً لهم أنه لن يتسبب لهم بأي أذى، إلا أنهم ركبوا شيطان الغرور، وتبجحوا بأمور كثيرة، اضطرته إلى أن يكتم همه، ويبقى وحيداً في بيته. في المستشفى عندما ذهبت بالمرأة العجوز إلى المستشفى، وكانت في حال حرجة؛ كانت تظن أنها لا خلف لها سوى شاب لا مبالي، لكنها ما أان خرجت من باب الغرفة، حتى وجدت ثلاثة رجال وثلاث نساء، يشكلون أسرتها!. ورغم أنها لم تنطق بحرف واحد، إلا أن أسرتها، شعرت بالخزي والعار؛ كيف تهمل امرأة عجوز حتى توشك أن تهلك، ولا يبادر أبناؤها إلى نقلها للمستشفى؟!.