^   أشعر بالأسى في كثير من الأحيان عند الاستماع إلى أحد يساريينا وهو يتكلم بلغة رجل دين -مع احترامي لرجال الدين المخلصين- يتلبس القداسة لمواقفه حتى كأنه فقيه، فيتحول إلى مسخ حقيقي، فتحار في كيفية تقبل خطابه “السياسي والإعلامي على حد سواء” فما الذي أدى بهذه الفئة من اليسار إلى الانحدار في الفكر والخيارات السياسية غير الرشيدة والمتوافقة مع المنابت؟ لن نتحدث في هذا السياق وعن هذا العجز أو الشلل السياسي الذي يجعل من هذا اليسار في ذيل القائمة ضمن الحراك السياسي، وإنما نتحدث عن فقده لهويته اليسارية بسبب القبول بوضع المتذيل للتيار الديني الطائفي، بل إنه -ومن شدة التماهي به- أصبح يستخدم -في بعض الأحيان- ما تدرب عليه لعدة عقود إبان النضال الديمقراطي من وسائل الجدل والإعلام لتمرير رسالة طائفية بلغة ديمقراطية، وهي من المفارقات الجديدة التي تكشف طبيعة التحولات الطارئة والتي لا يبدو أنها بعيدة عن بعض أنواع التأثير الخارجي. فلماذا يحدث مثل هذا الانحدار الذي يجعل المتابع له غير قادر على التمييز بين يساري “تقدمي” وبين متعصب طائفي، وبين صاحب فكر “مستنير” وبين طائفي مهووس بالثقافة الطائفية، بعد أن كان هذا اليسار في يوم من الأيام في مقدمة القوى الطليعية، يقود ساحة النضال، ويسهم في تحقيق المنجزات على صعيد الفكر والاستنارة والتي كانت حكراً له دون منافس؟ عندما نحاول تفكيك هذه الحالة المتفاقمة والتي آلت ببعض اليسار إلى هذه الحالة المأزومة، نرى أنه يتمسك بشعارات ومفردات وتحليلات تتماهى مع الحالة الطائفية أكثر مما يتماهى مع المطالب الديمقراطية الحقيقية -والتي لا ترتبط بالضرورة بالشكل الديمقراطي وإنما بطبيعة المجتمع وصورته المنشودة بالدرجة الأولى- حيث لا يبدو أن هذا النوع من اليسار بات مهتماً بهذه القضية بقدر اهتمامه بالشكل الخارجي للمطالب -وبعضها شرعي ومقبول حتى من السلطة نفسها- دون الاهتمام بالبنية العميقة لصورة الدولة والمجتمع في ظل سيطرة الطائفيين تحديداً، وهي صورة مرئية ومشاهدة آثارها الكارثية في أكثر من نموذج مماثل. قد يكون اليأس والإحباط قد أفضيا إلى هذه الانتهازية التي أدت بدورها إلى الوقوع في براثن هذه الكارثة التي تلتف على رقبته، بدلاً من أن يتجدد ويتطور ويتماهى مع شروط ومتطلبات الإصلاح والتقدم الحقيقية، ويبدو أنه قد فضل أن يقطع مع تاريخه وجذوره ليلتقي مع نقيضه الأيديولوجي على طريق الموت والضمور، ولذلك لا نراه يتردد في تبرير هذا النكوص بتحميل السلطة مسؤوليته، حتى لكأنّ نكوصه يبدو نكاية في السلطة في بعض الأحيان، أكثر منه تعبيراً عن قناعة به. لقد بينت الأزمة الأخيرة افتقار هذا اليسار لأي رؤية خلاقة لتجاوز تحديات المرحلة أو التعاطي معها خارج الاستظلال بمظلة التيارات الدينية الطائفية، فضلاً عن الافتقار للقدرة على بناء رأي عام قادر على تبني الأفكار الوطنية والديمقراطية وقيم الحداثة والعدالة والتقدم والمساواة، ولذلك انتهى به الأمر إلى الاكتفاء بالحلول السهلة بالتحالف المباشر مع تيار ضيق الأفق -شغوف بالسيطرة على السلطة بأي ثمن- أكثر من شغفه بمصلحة الناس، محافظ في منظوره للحياة وللمجتمع والسياسة. ومن المحزن أن هذا النوع من اليسار قد انتقل من كونه قوة اقتراح ومعارضة عقلانية وإن كانت صغيرة ولكنها مؤثرة بعقلانيتها وقدرتها الفكرية واستنارتها، إلى مريض موضوع على أجهزة التنفس الاصطناعي، عبر التماهي مع الشعارات الشعبوية المعلقة في هواء الأوهام المتناقضة، والأخطر من ذلك أنه يعلم علم اليقين أن التيار الديني الذي يتحالف معه هو أكبر عدو للديمقراطية والتقدم والحريات، في حين كان اليسار الحقيقي، وفي جميع الأحوال -وحتى في لحظات اليأس القاسية- يرفض اللقاء بالقوى الطائفية فما بالك بالتحالف معها، بل كان حريصاً على أن يباشر نضاله ضد الديكتاتورية وضد التخلف والتعصب والطائفية في نفس الوقت، ولذلك نجح في الحفاظ على هويته عبر عقود من الزمان، وعلى قيمه وشرفه النضالي، مع احتفاظه بقدر مناسب من القدرة على التأثير قي قطاعات مهمة في المجتمع. سؤال أخير من جملة عشرات الأسئلة المشروعة نوجهه لهؤلاء -إن بقي لديهم بقية باقية من قدرة على استعادة هوية اليسار المهدورة دون جدوى- هل تتذكرون الذي حدث لحزب تودا الإيراني بعيد الثورة؟ والذي حدث لليبراليين من الزعماء الذين تحالفوا مع التيار الديني المتعصب وقدموا نفس المبررات التي تسوقونها اليوم لتبرير تحالفكم مع نقيضكم الأيديولوجي؟!