كتب - أمين صالح: عرضنا في مقال سابق إلى فيلم ستانلي كوبريك “أوديسة الفضاء”، وتحدثنا عن العلاقة بين الإنسان وأسلحته الآلية، وإمكان نجاة الكائن البشري من الانهيار الوشيك للحضارة الغربية، ونواصل الحديث عن الفيلم وأهمية البعد البصري. تجربة غير مسبوقة لدى العرض الأول للفيلم في أبريل 1968، أي قبل عام من أول هبوط للإنسان على القمر، استقبله نقاد نيويورك بشكل سيء، بسلبية وعدائية ولا مبالاة، واحتاروا في تقييمه وتصنيفه وتحليله. ذلك لأنهم لم يكونوا مهيئين لتلقي تجربة بصرية جديدة، غير مسبوقة -بعد شهور قليلة، اعترف بعض هؤلاء النقاد علناً بخطئهم في تقييم الفيلم واعتبروه تحفة فنية- لقد نسبوا غموض الفيلم والتباساته إلى تشوش وعدم وضوح رؤية المخرج. بينما استقبله الجمهور بشكل جيد، وتحمس له عدد قليل من النقاد. أما أكاديمية السينما فلم تمنحه غير جائزة أوسكار واحدة عن أفضل مؤثرات بصرية خاصة. عبّر كوبريك عن ارتياحه لأن الفيلم حقق إيرادات عالية.. “نقاد السينما، لحسن الحظ، نادراً ما يكون لديهم تأثير على الجمهور العام. فيلمي (أوديسة) لقي إقبالاً جماهيرياً في كل مكان، وحقق أرباحاً عالية، رغم أنه مختلف”. وأضاف: أن “البعد البصري أكثر أهمية من الحبكة. الفيلم ليس عن رحلة إلى الفضاء، بل هي رحلة فضائية”. ومع ذلك أصر على وجود القصة، إذ يقول (Chicago Tribune, 13 Feb. 1972): “الفيلم، في الواقع، عبارة عن أربع قصص قصيرة، كلها مروية بسرد القصة القصيرة. لقد اندهشت عندما سمعت البعض يقول إنهم لم يروا قصة في “أوديسة الفضاء”، مع أن كل جزء بمثابة قصة قصيرة عظيمة”. طبيعة بصرية لافتة وعن تفاعل المتفرج مع الفيلم، قال كوبريك ( Playboy, Sept. 1968): “الطبيعة الفعلية للتجربة البصرية في 2001 هي من أجل منح المتفرج تفاعلاً عميقاً، فورياً، والذي لا – ولا ينبغي أن – يتطلب تضخيماً إضافياً. لكن بشكل عام يمكنني القول إن هناك عناصر في أي فيلم جيد قد تضاعف اهتمام وإعجاب المتفرج عند المشاهدة الثانية للفيلم. إن زخم فيلم ما، أو قوته الدافعة، غالباً ما تحول دون أن تمارس كل تفصيلة تأثيراً كاملاً في المشاهدة الأولى للفيلم. فكرة أن الفيلم لا ينبغي أن يشاهَد إلا مرة واحدة فقط نابعة من المفهوم التقليدي للفيلم بوصفه ترفيهاً، تسلية، سريعة الزوال، وليس بوصفه عملاً فنياً بصرياً. نحن لا نعتقد بضرورة أن نستمع إلى مقطوعة موسيقية عظيمة مرة واحدة فقط، أو نشاهد لوحة عظيمة مرة واحدة، أو حتى أن نقرأ كتاباً عظيماً مرة واحدة فقط، بينما الفيلم، حتى السنوات الأخيرة، كان مستثنى من فئة الفن، ولم يعتبر عملاً فنياً جاداً وهاماً.. وأنا سعيد لأن هذا الوضع بدأ يتغيّر مؤخراً”. جدل حول الرموز الميتافيزيقية الفيلم أثار جدلاً وخلافاً بخصوص معنى الرموز الميتافيزيقية التي يزخر بها الفيلم، وعن تأويل الفيلم بشكل عام. أما كوبريك فيقول: “إنها ليست رسالة أنوي توصيلها في كلمات. الفيلم تجربة غير لفظية. من مجموع 139 دقيقة من مدّة الفيلم، هناك فقط 40 دقيقة تقريباً من الحوار. لقد كنت أحاول أن أخلق تجربة بصرية تتجنب التصنيف اللفظي، وتنْفذ مباشرة إلى نطاق ما دون الوعي بمحتوى عاطفي وفلسفي. في هذا الفيلم، الرسالة هي الوسط. كنت أريد للفيلم أن يكون تجربة ذاتية على نحو مكثف، والتي تصل إلى المتفرج في مستوى باطني من الوعي، تماماً مثلما تفعل الموسيقى. إن أي شرح لإحدى سيمفونيات بيتهوفن يفضي إلى إضعافها بإقامة حاجز اصطناعي. كذلك، إلى أي مدى سيكون إعجابنا أو إدراكنا للوحة موناليزا اليوم لو كتب دافنشي أسفل قماش اللوحة: (هذه السيدة تبتسم على نحو طفيف لأن لها أسناناً فاسدة) أو (لأنها تخفي سراً عن عشيقها)؟ هذا حتماً سيقلل كثيراً من إعجاب وتقدير المتفرج، ويقيّده إلى واقع غير واقعه. لم أرد أن يحدث هذا لفيلمي. أنت حرٌ في تخمين ما تشاء بشأن المعنى الفلسفي والمجازي للفيلم. مثل هذا التخمين أو التأمل يدل على نجاح الفيلم في الاستحواذ على الجمهور في المستوى العميق. لكنني لا أرغب في وضع خريطة طريق لفظية للفيلم بحيث يشعر كل متفرج بأنه ملزم بأن يسلكها وإلا فسيخفق في فهم الغاية. الفيلم سينجح حقاً إذا تمكن من الوصول إلى السلسلة العريضة من الناس الذين غالباً لا يولون اهتماماً بمصير الإنسان، ودوره في الكون، وعلاقته بالأشكال الأسمى للحياة. لكن حتى في حالة شخص متقد الذهن، فإن ثمة أفكاراً معينة موجودة في الفيلم سوف تصبح بلا حياة، وتصير مختارة آلياً لتلائم فئات مثقفة، إذا قدمت كأفكار تجريدية. لكن إذا كانت مختبرة في سياق بصري وعاطفي مؤثّر، فيمكن لها أن تجد صدى ضمن النسيج الأعمق لكينونة المرء”. فيلم قريب من الموسيقى عن الفكرة نفسها يقول كوبريك في موضع آخر (كتاب The Film Director as Superstar, Joseph Gelmis): “أوديسة الفضاء هو أساساً تجربة بصرية غير لفظية، تصل إلى ما تحت وعي المتفرج بطريقة هي جوهرياً شعرية وفلسفية. الفيلم بالتالي يصبح تجربة ذاتية والتي ترتطم بالمتفرج في مستوى داخلي من الوعي، تماماً كما تفعل الموسيقى أو اللوحة. في الحقيقة. الفيلم يعمل على مستوى هو أقرب إلى الموسيقى واللوحة من الكلمة المطبوعة. الأفلام بالطبع تقدّم الفرصة لتوصيل أفكار وتجريدات معقدة من دون الاعتماد التقليدي على الكلمات. (..) المشكلة مع الأفلام أنه منذ أن نطقت السينما وهذه الصناعة كانت محافظة تاريخياً ومعتمدة على الكلام، متخذة من المسرحيات ذات الفصول الثلاثة نموذجاً لها. لقد حان الوقت لنبذ الرؤية التقليدية التي تنظر إلى الفيلم كامتداد للمسرحية. (..) إن لم ننظر إلى السينما كوسط بصري أساساً فسنخفق في اكتشاف الإمكانات والاحتمالات العظيمة للوسط”. لم أسع وراء الغموض وعن الغموض يقول: “لم أكن أسعى وراء الغموض أو أتعمده. الغموض شيء محتوم ويتعذر اجتنابه. في فيلم مثل (أوديسة الفضاء)، حيث كل متفرج يأتي حاملاً مشاعره ومداركه الخاصة تجاه مادة الفيلم، أعتقد أن درجة معينة من الغموض تكون ثمينة، لأنه يتيح للمتفرج أن يملأ أو يضيف بنفسه إلى التجربة البصرية مختلف التفاصيل الضرورية. على أية حال، ما إن تتعامل مع المستوى غير اللفظي، يكون من الصعب اجتناب الغموض. إنه الغموض الذي يتصل بكل الفنون، بالمقطوعة الموسيقية أو اللوحة. أنت هنا لا تحتاج إلى تعليمات وتوجيهات مكتوبة من قِبل الموسيقار أو الرسام تشرح وتفسر الأعمال. الشروحات تعطي قيمة ثقافية ظاهرية أو سطحية، وهي لا تفيد أحداً باستثناء النقاد والمعلمين الذين يتعيّن عليهم أن يكسبوا رزقهم من وراء ذلك الشرح. الاستجابات إلى الفن تكون دائماً مختلفة ومتباينة لأنها دوماً ذاتية بعمق”.