^   قلت للصديق الذي أغضبته أخبار الحوار مع المعارضة (بعد كل الذي فعلته على حد تعبيره): شخصياً كلما سمعت أو قرأت عن “أي نوع من الحوار” ينتابني شعور عارم بالسرور والرضا والأمل، لأن الحوار يعني مواصلة الصراع بالطرق السياسية الحضارية، بدلاً من المواجهة اليومية في الشوارع التي أتعبت الجميع وأهلكت الزرع والحرث وورثت العداوات بين أبناء الوطن على اختلاف توجهاتهم، فبعد الأزمة الطاحنة التي عاشتها البلاد وتداعياتها المتواصلة إلى اليوم، نحتاج إلى مراجعة للوضع السياسي في اتجاه إيجاد حلول للتقدم إلى الأمام، خصوصاً في ظل سقوط مشروع الانقلاب، واتضاح الصورة العامة وهي أن الأغلبية الساحقة من الناس يرغبون صراحة في تعزيز الإصلاح والديمقراطية، واتخاذ المزيد من الإجراءات في اتجاه الوصول إلى حلول وسطى تلبي قسماً من مطالب المعارضة وقسماً من مطالب بقية مكونات المجتمع السياسي، في حدود طاقة احتمال الواقع في المرحلة التاريخية. قال محتدا: ألا تلاحظ أنه وكلما تصاعد الحديث عن الحوار والحلول الوسط في الإعلام وفي الإشاعات، إلا وارتفعت وتيرة الأدخنة والتفجيرات وقطع الطرق، لتعلن القوى المتطرفة في هذه المعارضة أن أخشى ما تخشاه هو الحوار، انسجاماً مع ذلك الصراخ اليومي القادم لها من وراء الضباب من لندن وطهران، ولكن مع ذلك ولكي أجاريك في فرحك الطفولي الذي خاب أكثر من مرة، وكي نصل إلى فتح صفحة الأمل الجديد على حد قولك، فأرجو أن تجيبني بداية عن أسئلتي: هنالك أسئلة عديدة لابد من استحضارها ونحن نشخص، ونحن نحلل، ونحن نفكر في التجاوز، ومنها على سبيل: من وضعنا في هذه الأزمة ومن المسؤول عن استمرارها؟ من الذي قاد الانقلاب، ومن رفض الإصلاح والحوار؟ من الذي زج بالقوى الخارجية في شأننا المحلي ومن دفع بها لتكون جزءاً من المعادلة الحلية؟ وهل كانت السلطة لحظة اندلاع الأحداث استبدادية إلى الدرجة التي تستدعي ما حدث؟ وهل كان كل ما حدث ضرورياً ليدفع المجتمع ثمناً باهظاً من حياته واستقراره ووحدة نسيجه الاجتماعي الوطني في مقابل هذه الرغبة المحمومة في فرض أجندة سياسية ضيقة وأنانية (تمت ترجمتها لاحقاً في ما بات يسمى بوثيقة المنامة، مهما كانت هذه الأجندة مشروعة؟). وأضاف الصديق في سورة من الغضب الشديد: هل يجوز لأي طرف سياسي أن ينفرد بنفسه بتقرير ما يحتاجه الناس وما يريدونه ومستوى الإصلاحات التي تنفعهم وتفيدهم؟ وهل يجوز لأي طرف سياسي -مهما كان- أن يتحدث باسم الشعب وأن يفعل ما يفعل باسمه وبالنيابة عنه؟ من الذي رفض أي حل سياسي عقلاني تفاوضي بعيداً عن المواجهة والإقصاء؟ وهل يجوز يا صديقي أن يتم فتح باب الحوار هكذا سبهللا دون أن يغادر الذين ورطونا في أسوأ ورطة فكرهم الضيق وأنانيتهم وغرورهم؟ قلت: لقد كان ما كان، وأرى أن الحوار لا يجب أن يحول ضده أمر مهما كان خطيراً، لأن الحوار يعني السلم الأهلي ويعني العقلانية، الأوضاع اليوم تغيرت والمعارضة نفسها أصبحت تطالب بالحوار دون شروط مسبقة؟ ألا ترى أنه قد آن الأوان للخروج من هذه الدائرة المغلقة؟ أما آن الأوان لمساعدة المعارضة على تجاوز خطابها العدمي القائم على وضع شروط مسبقة لأي حوار، خاصة فيما يتعلق بقصر الحوار عليها والسلطة، واقتصار الحوار على تجريد السلطة من سلطتها، نعم نحتاج إلى الحوار الصادق وغير المشروط ضمن أفق الإصلاح، ولكن بشرط أن تكون إعلانات المعارضة صادقة وليست مجرد مناورة في سياق إرسال رسائل للخارج الذي يضغط منذ فترة من أجل إقناعها بالدخول في حوار غير مشروط، وذلك لأن مواجهة الحقائق وحدها تفضي إلى تحمل المسؤولية. قال: لكن للأسف فإنني مازلت أرى الخطاب المعارض بصيغته الحالية بدون أفق للحل الجاد ما دام يشترط ويتحدث مسبقاً عن المبادرة التي رفضتها في حينه ومادام يتحدث عن وثيقة المنامة الهزيلة، وما دام ينكر كل شيء تقريباً، ينكر التقدم الذي حصل في اتجاه بناء الديمقراطية والإصلاح -مهما كان هذا التقدم محدوداً- فأنتج هذا الخطاب ثقافة جديدة هي ثقافة الشكوى والإنكار والتكذيب والتزييف، من خلال البيانات التي تميل إلى تبرير التعدي على القانون وعلى القيم المستقرة في وجدان المجتمع.. قلت: قد يكون من البديهيّ أن مبدأ الحرية يتيح لكلّ القوى تقديم آرائها بالشكل الحزبي أو الإعلامي الذي يناسبها، ولذلك دعنا نأخذ الأمور ببساطة وحسن النية ونقبل المعارضة على ما هي عليه ونبدأ حواراً بدون شروط؟ نعم لا يمكن أن يكون الحوار دون ضوابط ودون أهداف محددة وأول هذه الضوابط ضرورة أن يكون الحوار وطنياً خالصاً دون أي تدخل من أي جهة خارجية، وأن يتم الإعلان صراحة التبرؤ من العنف مهما كان مأتاه وإدانته بعبارات صريحة وواضحة، وأن يكون المتحاورون متفقين على الوصول إلى حلول توافقية، ولتكن مقسمة إلى مرحلتين: الأولى هي مرحلة بناء الثقة واستعادة الأمل ولم الشمل والعودة إلى المؤسسات السياسية الطبيعية في ظل ما تحقق من تعديلات دستورية مهمة، مع اتخاذ خطوات إضافية تجاه. الثانية: الاتفاق على الخطوات الإصلاحية اللاحقة وفق ما يتم الاتفاق عليه. ولكن يجب أن نعترف في النهاية أنه لا سبيل إلى الخروج من الأزمة إلا بحوار وطني جاد يلتقي فيه الجميع عند نقطة الوسط السعيد، لأنه لا مجال للخروج من نفق التآكل والانهيار إذا لم نغلب صوت العقل والفكر الحر والرأي الحكيم عالياً، لتأمين الخروج من الأزمات بكافة أنواعها ومستوياتها.. وما عدا ذلك فطريق المغامرة والانتحار بكل ما يعنيه من كارثية.