^   تتفاخر الحوزة الدينية أنها تميزت عن باقي المدارس الإسلامية بإبقاء باب الاجتهاد في المسائل الفقهية مفتوحاً، وهذا ما جعلها أكثر حيوية وحركية على صعيد إغناء مكتبتها الفكرية وتخريجها لعلماء بارزين على الساحة الشيعية. وقد زادت حركية هذه المدرسة مع ظهور التيار الأصولي الذي ساد فيما بعد في الحوزة الدينية؛ والمعني بالأصولية ليس المفهوم الحالي لها، والذي بات يرمز للسلفية (المغلقة كما يسمونها) وإنما هي العقلانية التي نشأت في الحوزة الدينية مقابل الإخبارية التي كانت سائدة آنذاك، والتي يمكن تسميتها بالسلفية الشيعية في المسائل العقائدية والفقهية. والتيار الأصولي هو الذي التزم واعتمد العقل مصدراً في استنباط الأحكام الفقهية، وأصول الفقه العقلي هي الأصول المستقاة من مبادئ العقل الفلسفي، أما التيار الإخباري والذي قاده في بادئ الأمر الشيخ محمد أمين الاسترابادي (توفي سنة 1036) ومن بعده الشيخ يوسف البحراني (1186 هـ، -1107هـ) فإنه يعتمد أصول الفقه النقلي في الاستنباط، وهذا التيار يرفض عملية (الاجتهاد) و(المجتهدين) ويعتبر ذلك بدعة في الدين، ويرفض تقسيم الشيعة إلى مجتهدين ومقلدين، وهو بالتالي يرفض الاعتراف بأية ولاية (للفقهاء) الذين يعتبرهم منحرفين عن خط أخبار أهل البيت، كما يرفض عملية (التقليد) ولا يجيزه إلا للأئمة المعصومين. هذا التيار كان ولعدة قرون هو السائد في الحوزة العلمية حتى جاء السيد محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني (1205هـ - 1118هـ)، وتبنى إعادة فتح باب المدرسة الأصولية. يذكر أن الصراع الذي دارت رحاه بين الأصولية والإخبارية قام على إثر تطوير نظرية النيابة العامة للفقهاء إلى نظرية سياسية على يد الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي ت 940هـ وذلك بهدف منح الملوك الصفويين شرعية الحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل) وهو ما أدى إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في الحوزة الشيعية عرف بالصراع الإخباري - الأصولي، وقد امتد هذا الصراع إلى وقتنا الراهن لكن بدرجة أخف مما كان عليه في القرون السابقة، وقد أفرز هذا الصراع انشقاقات عديدة في جسم الطائفة أدى إلى ظهور تيارات متصارعة عملت على تكفير بعضها البعض الآخر، ومن أبرز هذه التيارات (الشيخية) التي ظهرت في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، وقد سميت بذلك نسبة إلى عميد مدرستها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي 1243‍ هـ ‍- 1166هـ، الذي كان يرفض (الاجتهاد) وكان يدعي العلم عن طريق المكاشفة والشهود، وقد ظهر تياره مع قيام الدولة القاجارية في بلاد فارس وتسلم فتح علي شاه القاجاري زمام الملك، وكان القاجاري قد تبنى نظرية الشيخية كغطاء شرعي لحكمه، مثلما فعل الصفويون عندما اتخذوا من فتوى الكركي غطاءً شرعياً لحكمهم. وقد انبثق من تيار الشيخية حركة عرفت باسم الكشفية التي قالت (بالركن الرابع)، والركن الرابع هو زعيم الحركة الحاج محمد كريم خان القاجار، أحد أفراد الأسرة القاجارية الحاكمة، وقد تطورت الحركة الشيخية الإخبارية وتشعبت إلى فرقة جديدة أخرى هي (البابية) التي قادها زميل لمحمد كريم خان، وتلميذ للسيد كاظم الرشتي، هو الميرزا علي محمد الشيرازي، الذي أخذ يدعي أنه نائب الإمام المهدي المنتظر الخاص وأنه (باب إمام الزمان) وهي الفرقة التي تفرعت منها الحركة البهائية. ومن الملاحظ أن المدرسة الأصولية، ورغم النقلة النوعية التي أحدثتها في الاجتهاد الفقهي، إلا أنها بقيت مقلدة للمدرسة الإخبارية في باب العقائد، ولم تفتح باب الاجتهاد في هذا الجانب، وقد تعرض كثير من المجتهدين الأصوليين الذين سعوا إلى مجرد تهذيب بعض الروايات المتعلقة بالمسائل العقائدية إلى الطعن والتسقيط من قبل زملائهم الآخرين. ومن أبرز المجتهدين الذين تعرضوا لعملية التسقيط في القرن الماضي هو السيد محسن الأمين العاملي (1371-1284هـ) الذي أبدى رأيه الاجتهادي بخلاف الرأي السائد في مسألة عاطفية وهي مسألة التطبير (شق الرؤوس في يوم عاشوراء)، حيث أفتى بحرمتها، وقد تعرض إثر ذلك لأشرس حملة عدائية من الحوزة ومراجعها إلى حد اتهامه (بالزندقة) كما جاء على لسان الخطيب العراقي الشهير السيد صالح الحلي، الذي هاجم الأمين في قصيدة طويلة قال فيها (وإذا مررت بجلق فابزق بوجه أمينها المتزندق). () ^ جلق: من أسماء دمشق حيث كانت موطن السيد الأمين.