تحقيق ـ حسين التتان: منازل قديمة مهجورة، هي أشبه بمنازل أثرية مدروسة، تراها متناثرة في خامسة المحرق، فلا تستطيع وزارة الثقافة أن تتملكها أو تقرر إذا ما كانت هي من ضمن المنازل التراثية فتحافظ عليها، ولا البلدية ترغب بإزالتها، وبهذا أصبحت هذه المنازل إما مواخير للفساد الأخلاقي وتعاطي المخدرات، أو يؤجرها أصحابها للعمالة الرخيصة، بينما هناك ألف حل وحل لهذه الأزمة فقط لو أرادت الحكومة أن تفعل شيئاً. في الوقت الذي تمتلئ المواقف الصغيرة خلف القيصرية بسيارات الآسيويين وشاحناتهم حافلاتهم، وجدنا مواطناً من أهل الدار (أحمد محمد) يبحث عن موقف لسيارته.. تريثنا قليلاً كي نشاهد الموقف على الطبيعة، فحدث لنا أمر مضحك سنذكره لاحقاً، كما سنذكر قصة أحمد. مآس تتكرر في خامسة المحرق، نعجز أن نرتبها فضلاً عن صياغتها، لكن دعونا نحاول، فربما ننجح في تنظيم هموم جزيرة عربية كانت، واليوم فقدت هويتها بعد أن تخلى عنها الكثيرون. شوارع الفوضى لماذا لا توجد فواصل بين المجمعات؟ لماذا تتكدس المنازل فوق بعضها والناس والشوارع؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ قاطع عضو مجلس البلدي غازي المرباطي أسئلتي المتلاحقة ليقول: رويدك أيها الصحافي فلا طريق أو شارع لدينا يفصل بين المجمعات الثلاثة (211-213-214)، أو يفصلها بطريقة واضحة، إذا أردت الدقة، وكأن هذه المجمعات كانتونات، ومن هذا نستدل على أن المجمعات السكنية في شكلها الحالي، هي ذاتها التي كانت منذ (أيام الغوص) ولم تتغير، على الرغم من تغير وسائل الغوص.. وتظل هذه المشكلة من ضمن مسؤوليات المختصين بوزارة الأشغال. شارع عبدالرحمن الفاضل، هو من الشوارع الرئيسة بالمحرق، وهو، طيلة أيام الأسبوع، يشهد ازدحاماً كبيراً، فهو يغذي السوق ويتقاطع مع المجمعات المحيطة به كافة من الدوائر الأخرى، ولهذا يكون المرور فيه ضرورياً لأهالي تلك المنطقة، فهو الشريان الذي يغذي قلب المحرق... ونعتقد أن تنظيم هذا الشارع تعود مسؤوليته إلى وزارة الأشغال أيضاً! تحولت غالبية شوارع خامسة المحرق بقدرة قادر وفي خلسة من الليل إلى شوارع تجارية، فلا شارع يخلو من محال تجارية، وهذا ما شاهدنا وما اشتكى منه أهالي الدائرة، ترى ما هو السبب في ذلك؟. يجيب المرباطي: بصراحة واضحة، إن من أسهم في هذه الأزمة، هو بلدية المحرق قبل إنشاء المجالس البلدية، وربما أسهم المجلس البلدي كذلك في بعض أجزاء الأزمة، وهذه من أسوأ الظواهر في الخامسة، حين حوَّلوا شوارع الأحياء السكنية إلى مناطق تجارية. هذا غيض من فيض، إذ نحن نراهن أن السبب في ذلك كله يعود إلى عدم تخطيط المنطقة بطريقة حديثة. وضحك المرباطي بخجل، فسألته عن السبب فأخبرني أنه سيأخذني إلى مكان ما وسكت، بعد دقيقة واحدة وقف، حتى نزلنا من السيارة، وإذا به يشير بإصبعه إلى حديقة رملية مساحتها أمتار بسيطة، تقع بين البيوت، وتحتوي على أربعة ألعاب بدائية، كان يلعب على إحداها طفل آسيوي. هذه هي الحديقة كلها!!. قال المرباطي، وأضاف: وهذه الحديقة هي الوحيدة بخامسة المحرق، وأنا من جاء بالرمل وهذه الألعاب، هذا كل ما استطعت فعله لإسعاد أطفال المحرق. الآن عرفت لماذا كان يضحك بخجل شديد، لأن الحديقة الرملية المأساوية إنجاز مؤلم وغير مشرف لعضو بلدي!! قصة أحمد في بداية حديثنا تحدثنا عن أحمد، وهو مواطن يقطن المحرق يميل إلى السمرة، جاحظ العينين، نحيل لكنه نشيط، التقيناه مع زملائه في بسطة خلف سوق القيصرية مباشرة، لنسمع همومهم ونوصلها إلى من بيده الحل والربط. يقول أحمد محمد بعد أن استند إلى مسنده تاركاً كأس الشاي من يده : مشكلتنا الرئيسة هي مع الإخوة الأجانب الذي احتلوا مواقف السيارات كافة، ولم يتركوا لنا موقفاً واحداً، وليست هذه هي المشكلة وحسب، بل أنهم يأتوننا بسياراتهم من مناطق بعيدة ويوقفونها قرب منازلنا لمدد تصل إلى أيام وأيام، من دون أن يحترموا خصوصيات أهل المنطقة، حتى أصبحنا اليوم مواطنين بلا مواقف سيارات. أما في حال اعترضت سيارة أحد الآسيويين سياراتنا في مواقف السيارات عند منتصف الليل، وأردنا الخروج إلى أعمالنا أو لأي ظرف طارئ كالذهاب إلى المستشفى، فأول ما نعمله هو الاتصال بالمرور كي يتصل بدوره بأصحاب السيارة (المعترضة) لإزاحتها عن الطريق، لكن المرور يرفض الاتصال بعد الساعة 12 ليلاً بحجة عدم رغبتهم بإزعاج صاحب السيارة، وكأن إزعاجنا حلال، وإزعاج المخالف للقانون حرام! هموم الوقفية والمواقف وبمجرد أن انتهى محمد من حديثه معنا أعقبه إسماعيل عبدالله باختصار الكثير من المشاهد المتراكمة بالمحرق، إذ قال : إن المشكلة الرئيسة في الخامسة تتعلق بعدم رغبة الدولة بالاستملاك على الرغم من استطاعتها ذلك، فهناك على سبيل المثال مجموعة كبيرة جداً من الأوقاف السنية والشيعية يعود تاريخها إلى عشرات السنين، وهي اليوم خربات متناثرة في أرجاء المحرق، فلماذا لا يتم استملاكها وهدمها ليتسنى للدولة بناء مشاريع خدمية مكانها، كمواقف للسيارات أو منازل لأهالي المنطقة أو إنشاء حدائق ترفيهية للأطفال. ويطالب المواطن عبدالله الجهات المختصة بأن تستملك عاجلاً الأراضي الضائعة من الأوقاف، وتخصيصها لمشاريع خدمية، أو تبني مساجد وحدائق وأماكن للتنفس، متسائلاً: هل تبخل الحكومة أن تشتري خرائب وقفية بمبالغ زهيدة لإسعادنا؟! تؤكد وزارة الثقافة أن طريق اللؤلؤ يمر عبر منازل أهل المحرق، وهناك الكثير من المواطنين لا يستطيعون التصرف حتى في عقاراتهم الخاصة، بذريعة أنهم في طريق اللؤلؤ، وفي حال أراد أحدهم أن يزيل حجراً أو يبني محله حجراً آخر، فإن القرار في ذلك يعود إلى جهتين فقط، الثقافة والبلدية. راشد ماجد، شارف على الستين عاماً، يشير إلى منزله الأبيض، والذي يقع على طريق اللؤلؤ قائلاً: عامان من التعب واللهاث وراء الثقافة والبلدية فقط، من أجل أن أبني شقتين إضافيتين في منزلي لإيواء عيالي، وبعد أن هدّ ركني، وافقوا على مضض أن أبني تلك الشقتين، والسبب في ذلك، هو أن منزلي يقع على طريق اللؤلؤ... وهل ذنبي هو أني ولدت في طريق ملؤها أشواك؟ بعد أحاديث وهموم تقطع القلب سمعناها من أهالي المحرق، قلت للمرباطي، هلم نلملم أوراقنا لنتجه نحو القيصرية، ربما نزيل من خلال تراثها الأصيل، بعض تلك الهموم. هنا حدث الأمر المضحك الذي وعدت أن أرويه لكم في بداية حديثنا هذا، وهو حين أردنا ركوب السيارة، فوجئنا أن هناك سيارة مركونة بجانب سيارتنا وتعترضها، لكن صاحبها غير موجود، انتظرنا برهة من الزمن، بعدها جاء آسيوي محملاً بالأكياس الكبيرة، وضعها في السيارة، وقال لنا: انتظروا خمس دقائق أخرى، سأذهب وأعود لكم بعدها، لأني لم أكمل بقية الأكياس!! استغربت من صمت المرباطي، لكنني اكتشفت حينها أن هذه الحركات غير المهذبة من الآسيويين، أصبحت أمراً اعتاده أهل المحرق، وتأقلموا معه. ونحن نهمّ بركوب السيارة، لوَّح إلينا الأهالي بأيديهم وقالوا لي شخصياً : المرباطي على الرغم من عدم استطاعته تلبية جميع رغباتنا التي نطالب بها، لأنها ليست كلها بين يديه، إلا أنه صوت نظيف، فهو في أقل تقدير، مستمع جيد لأهالي المحرق. القيصرية والذهب ما قصة سوق القيصرية، وما قصة تطويرها؟ هذا السؤال طرحناه على العضو البلدي غازي المرباطي عندما هممنا بالسير إلى سوق القيصرية مشياً على الأقدام فأجاب: إن سوق القيصرية من أعرق الأسواق في منطقة الوطن العربي، وكان هناك مشروع سابق لدى بلدية المحرق يهدف إلى تطوير واجهة السوق والمحال التجارية وتهيئة البنية التحتية لها، وإنشاء مواقف للسيارات، لكن ما حدث هو دخول وزارة الثقافة على خط المشروع، حتى أخذته بالكامل، واليوم أصبحت هي الجهة المختصة بمسألة التطوير، وبالفعل قامت بتطوير جزء صغير من السوق في غضون عامين تقريباً، والبلدية ستشرع حالياً بتطوير قسم من المشروع، خاصة واجهة السوق التي تطل على شارع الشيخ حمد، على النمط التراثي التقليدي البحريني. نزلنا القيصرية، وكان كل شيء يوحي بالصمت والهيبة، رأينا الجزء المطور، وكان مذهلاً حقاً، لكن في الوقت نفسه، يظل المتبقي من السوق الذي يحتاج للتطوير كبيراً جداً. يقول المرباطي: إذا استمر عمل وزارة الثقافة بهذه الوتيرة في تطوير القيصرية، فإنها لن يكتمل تطويرها قبل عشرة أعوام مقبلة. سوق القيصرية، عبارة عن محال تجارية أشبه بالخربة، هجرها غالبية أصحابها، طرقات ممزقة، وحفر متناثرة على جانبي الطريق. أما القوارض فإنها تعشش في بنيتها التحتية، ولأن الليل اقترب فلا شيء من الضوء سوى إنارة خجولة تصدر من الدكاكين العتيقة، وأصحاب المحال التجارية يشكون الكساد بفعل قدم السوق، والسبب الأهم هو عدم وجود مواقف لسيارات الزبائن. خرجنا من الخلف، رأينا سوق الذهب، هو صامت أيضاً ومهمل، على الرغم من جودة الذهب في دكاكنه ورقي صياغته، فالكثير من الأخوة الخليجيين الأعزاء، يقصدون الذهب البحريني في سوق المحرق القديمة، ومن المخجل، حقاً، أن نرى ذهباً لامعاً في شارع لا شيء يلمع فيه!! التخطيط أولاً وأخيراً حين انتهى بنا الحديث عن سوق الذهب، سألت البلدي غازي المرباطي عن المشكلة التي تعاني منها الدائرة الخامسة تحديداً؟ فأجابني بثقة كاملة: نحن طالبنا الجهات الرسمية في أكثر من مناسبة بإعادة تأهيل المحرق وتطوير مناطقها، عبر إعادة تخطيطها وتوسعتها، ورسم الشوارع كلها من جديد، خصوصاً إلغاء فكرة الشوارع ذات المسارين، وتوحيده بمسار واحد. حين تكون مواقف السيارات وهمومها هي هاجس المحرقيين جميعاً، فإنه لا مناص لنا من الحديث عنها بين سطر وسطر. يقول البلدي: بخصوص مواقف السيارات، سننشئ موقفاً متعدد الطوابق لأهالي الدائرة، يتسع لنحو 120 سيارة، وسيكون على نفقة أحد المحسنين، وهناك مدرسة قديمة تم هدمها وأنشأنا مكانها مواقف للسيارات، وهذا أول موقف تشهده الدائرة، أنجز للتو. سطر قبل سطر أيضا، إذ طالب المرباطي باستملاك آخر أرض بالخامسة، لإنشاء مواقف للسيارات وحديقة عامة، وكانت بالفعل من أكبر الأراضي التي شاهدتها في الدائرة، وصدر قرار باستملاك هذه الأرض في شهر أبريل الماضي تحت مسمى (استملاك عقار لمواقف عامة وحديقة)، ومن هنا يتمنى المرباطي وأهالي دائرته أن يرى هذا المشروع النور قبل نهاية 2012. وجهت سؤالاً صريحاً للمرباطي، وظننت أنه سيتردد من الإجابة عنه حول هموم السكن والآيلة خصوصاً وأن الكثير من أبناء دائرته يضجون من فشلهم في الحصول على منزل. لكنه أجاب: عندي أكثر من 390 طلباً يخص المنازل الآيلة للسقوط، ولأن المشروع تم تجميده وتحويله من جديد إلى وزارة الإسكان، فلا نعرف أين سينتهي به المطاف!. أما بالنسبة إلى الطلبات الإسكانية، فإن بين يدي اليوم أكثر من 1220 طلب إسكاني لأهالي الدائرة الخامسة، وبعضها قديم يعود إلى العام 1993، لكن بعد تحركات شعبية قوية ومتكررة، من خلال دعوتي لاعتصامات عدة بهذا الشأن، وكتابة عرائض شعبية رفعناها للقيادة الرشيدة، تهدف إلى إلغاء فكرة توزيع الوحدات السكنية حسب المناطق، فتصدينا بذلك بشراسة لمفهوم المناطقية وتغليب الأقدمية والعدالة في فلسفة توزيع الوحدات، وتلقت القيادة، ولله الحمد، رسائلنا بإيجابية، إذ تم توزيع وحدات سكنية في منطقتي البسيتين وقلالي لأصحاب الطلبات القديمة، لكننا ما زلنا مصرين على أن يكون لنا مشروع مستقل يمتد من الساحل، ليستفيد منه أهالي الخامسة. شخصيات محرقية برزت شخصيات مهمة من رحم خامسة المحرق، فهي أنجبت الشعراء والفنانين وأفضل الرياضيين والمثقفين في البحرين، لكنها في نظر المسؤولين لا ترقى لأن تكون معلماً لتاريخ الوطن الحديث. والشيء بالشيء يذكر، فقبل أن أغادر المحرق، اقترحنا على المرباطي أن يتحرك جاداً للسعي لإنشاء متحف خاص بهذه الكوكبة التي أنجبتهم دائرته. يقول المرباطي: كنت أتمنى أن يخصص ركن من موقع سوق القيصرية لتوثيق تاريخ المحرق وجميع الشخصيات التي أبدعت عبر تاريخها.. قلت له إن هذا الأمر يحتاج للمتابعة وليس هو مجرد أمنيات فقط، فوافقني على أن الأمر يحتاج للمتابعة بالتأكيد. قلت للمرباطي كلمتي الأخيرة: يا أهل المحرق، حافظوا على نسيجكم الواحد، وتآلفكم، وحافظوا على المقاهي الشعبية التي جمعتكم فكانت بمنزلة النوادي الثقافية، وفي الختام، حافظوا على هويتكم العربية. رحلت من المحرق، والشوق يأخذني إليها وإلى أهلها الأعزاء، ولهذا أتمنى أن تنال المحرق اهتمام المسؤولين، كما نالت إعجابي وإعجاب كل مواطن بحريني، فهل سيلتفت إليها المسؤول؟ أم ستظل كما كانت قبل النفط؟... تحياتنا إلى المحرق، ولتعذرنا على التقصير.