^ حتى الآن ما يزال المواطن العربي يجهل من هي الجهة التي ارتكبت مجازر بلدة “الحولة” في سوريا، وإلى يومنا هذا لم نصل إلى قرار حاسم حول من هي الفئة التي نفذت “جريمة معركة الجمل في ميدان التحرير”، ولاحتى القوى السياسية التي خططت لها. كما إن الشعب العربي، ومن بين صفوفه الشعب اليمني، في حيرة من أمره بشأن ما يجري في اليمن، والأمة العربية برمتها كانت تنتظر في يونيو 1967 كي تستمتع بالاستماع إلى صوت أم كلثوم يصدح من تل أبيب، قبل أن يكتشف الجميع أن سلاح الجو المصري قد دمر عن بكرة أبيه، وطائراته جاثمة على أرض المطار وخزاناتها تنضح بالوقود، ويلي ذلك المعارك ضد قوات العدو في شوارع مدينة السويس. القائمة طويلة وقديمة، لكنها لا تكف عن التمدد، ولا تتوقف كالأفعى عن سلخ جلدها كي يلائم الزيادة التي تطرأعلى جسدها وهو ينمو. في الجوهر ما نتحدث عنه هو سلوك إعلامي مختل لم يعد محصوراً، كما يحلو للبعض أن يوهمنا، في الجهات الرسمية، بل تسلل إلى القوى المعارضة، التي باتت لا تتردد هي الأخرى، بوعي أو دون وعي، في لي رقبة الحقائق، وفي أحيان أخرى تزويرها لخدمة برامجها لكن بشكل مختل. الضحية الثابتة هنا المواطن العربي الذي أفقده ذلك السلوك الثقة حتى في ذاته. ربما يحقق مثل هذا الإعلام المختل، بعض المكاسب الآنية الضيقة الأفق، لكنه غير قادر على امتلاك المقومات التي تحقق له حضوراً ثابتاً ومتماسكاً في صفوف المجتمع الذي يخاطبه. ما هو أسوأ من ذلك أنه يولد سلوكاً مجتمعياً موازياً، سلبياً وخطيراً يمكن حصر أهم مظاهره في النقاط التالية: 1. الاختلال المهني، ففي سعيها لإعادة بناء بث المعلومة، ونظراً لاضطرارها لتشويهها كي تأتي منسجمة بشكل مفتعل مع ذلك السلوك المختل، تضطر المؤسسة الإعلامية المعنية إلى التضحية بالكثير من المقاييس المهنية، كي تلبي تلك الاحتياجات الأنية الضيقة الأفق. ينعكس ذلك تلقائياً على الطاقم البشري العامل، الذي يغادر صفوفه الحرفيون، ويلتحق بركبه “المنافقون”، ممن لا يمتلكون الكفاءة المهنية المطلوبة، والذين لا يكفون، بوعي بطبيعة الحال، عن محاربة التقيد بالمقاييس المهنية الضرورية، في سياق دفاعهم عن استمرار وجودهم في المؤسسة، ومن أجل إشباع طموحهم في التسلق إلى أعلى الدرجات الوظيفية في إداراتها. فيصبح السلم الوظيفي ذي اتجاهين مختلين، صعود المتسلقين غير الكفؤين، وهبوط الحرفيين الماهرين. ومحصلة ذلك تردي مستوى الجهة الإعلامية وتحولها إلى آلة لصناعة أي شيء، سوى الإعلام الراقي الحائز على ثقة من يخاطبهم، بمن فيهم المختلفون معه. 2. النزيف الاقتصادي غير المبرر، وغير القادر على الإبداع، وهو أكثر ما تحتاجه أية مؤسسة إعلامية. فهناك أكلاف باهظة غير تلك الطبيعية المتعارف عليها، التي لا بد من تحملها، كي ترضي احتياجات التشويه، او حتى التجميل. الأمر هنا شبيه بعمليات التجميل الباهظة الثمن التي تضطر إلى إجرائها بعض الفنانات، لإخفاء بعض المعالم غير الجميلة في أجسادهن، دون أن يدركن، وربما يغضضن الطرف، عن قدرة الجمهور، وهو ذكي بفطرته، على اكتشاف ذلك “التحسين”، المنافي للتكامل الجمالي الذي طوره الجسد الإنساني على مر ملايين السنين. أسوأ ما في الأمر، ونظراً لكون تلك العمليات منافية لآليات أداء الجسم لوظائفه، غالباً ما تكون نتائجها مدمرة لتلك الوظائف على المدى المتوسط، وعلى أعضاء أخرى في ذلك الجسم على المدى الطويل، ربما لم تكن هي المستهدفة بعمليات التجميل. المحصلة نزيف اقتصادي غير محدود ومستمر، ونتائج سلبية منافية لتلك المتوخاة من وراء ذلك النزيف. والمحصلة النهائية لذلك الاختلال الإعلامي مجتمع مريض اقتصادياً، ومشوه سياسياً، ومتضارب اجتماعياً. 3. فقدان الثقة المطلوبة والضرورية التي يحتاجهما بناء مجتمع متحضر ومتماسك يعمل من أجل التطور والتقدم على الصعد كافة، بين ذلك الجمهور، وتلك الجهات الإعلامية، يفرز فجوة من الحذر الشديد، تشكك في كل ما يصدر عن تلك الجهة، كي تصل في نهاية المطاف إلى التكذيب، بل وحتى السعي لدحض كل ما تبثه تلك الجهة الإعلامية، بما فيها حديثها عن قضايا أخرى ليست ذات علاقة بالصراعات المحلية. 4. سيطرة الشائعات التي تنتشر كما النار في الهشيم، فبعد فقدان المصادر الرسمية وغير الرسمية لمصداقياتها، يجرد المواطن المتلهف لسماع الحقيقة من موضوعيته، ومن ثم اتزانه المطلوب للحكم على ما يتلقى، من مسموعات أو مشاهدات، التي وجدت الجهات التي تقف وراءها أن الفرصة باتت سانحة لبث سمومها في جسد ذلك المجتمع، الذي يتهاوى، بعد أن تتمكن منه تلك السموم، أمام أول ضربة توجهه لها تلك القوى التي تحرص على تجيير تلك الشائعات كي تخدم مصالحها، وتدافع عن مشروعاتها، التي ربما تكون متضاربة مع المصلحة الوطنية العليا، على المستوى العربي القومي الشامل، أو حتى الوطني المحدود. 5. توجه المواطن نحو الخارج بحثاً، وهو سلوك خاطئ بطبيعة الحال، ويتعارض والمصلحة الوطنية، عن جهات إعلامية ربما تكون في بعض الأحيان “كاذبة”، ولا تتورع عن نشر معلومات غير صحيحة ومن الخطأ الركون لها. تفقد الجهة الإعلامية المحلية حينها القدرة على الدخول في منافسة عادلة مع تلك المؤؤسات الخارجية، الأمر الذي يفتح المجال أمام غزو خارجي لا تقف حدوده عند القضايا الإعلامية، بل يتسع نطاقه كي يشمل الاقتصادية، ولا يتورع عن مس الحضارية والعقيدية، بعد أن يمهد الأرض، ويتمكن من السيطرة على عقول المتلقين العرب، الذين باتوا لقمة سائغة في فمه، الواسع، وشهيته النهمة. ازدادت سلبيات هذا الإعلام المختل بعد التطور النوعي الذي شهدته المؤسسات الإعلامية جراء دخول عامل جديد في الساحة الإعلامية، وهو شبكة التواصل الاجتماعي، التي لم تعد قناة ناقلة للحدث فحسب، بل تجاوزت ذلك كي تصبح، بفضل ما تضعه من إمكانات هائلة بين يدي من يستخدمها، متى ما أحسن هو ذلك، جزءأً من صنع الحدث ذاته، تتضاعف سلبيات هذه القنوات، عندما تبدأ في التأثير على إعلام مختل مثل الإعلام العربي القائم. من هنا، هناك حاجة ماسة إلى أن يغير الإعلام العربي، الرسمي والمعارض من سلوكه المختل، ويخلع عنه الثوب السيئ الذي يرتديه اليوم، كي يستعيد ثقة المواطن العربي فيه، فيتوجه له، بدلاً من وضع ثقته في مؤسسات إعلامية أجنبية. وفي انتظار هذه اللحظة الانتقالية الحاسمة، يواصل المواطن عزوفه عن إعلامه المحلي، أو متابعته لكن بعين الشك والريبة