كتب - علي الشرقاوي: الحورة بيوت، والحورة عوائل، والحورة تاريخ وعلاقات اجتماعية، متداخلة ومتقاربة ومتفرعة، إلى درجة إن كان عائلة هي مرتبطة بأخرى عن طريق النسب أو القرابة أو المصاهرة ، وكل عائلة ترى نفسها في العائلة الأخرى ، فلا توجد هناك عائلة أفضل من الأخرى إلا بالكرم والجود والسيرة الحسنة ومساعدة الجار. بيتنا في أرض راشد تقي اشترى أخي حسين قطعة أرض من راشد تقي، ملاصقه لبيته، الذي لم يكن يحتوي إلا على غرفتين؛ واحدة كبيرة والأخرى صغيرة، وعلى مطبخ من السعف و«حوش” كله “صبان”. لم أعرف راشد تقي، ربما توفي قبل أن أعي ذلك، الذي كان في تلك الفترة زوجاً لعمتي أم إسماعيل. وبعد أن بني أخي في الأرض بيتاً كان عبارة عن ثلاث غرف وحمام ومطبخ، انتقلنا للسكن فيها العام 1962م، بالضبط مع انتقالي من مدرسة رأس الرمان الابتدائية إلى مدرسة الحورة الإعدادية، وهي أول مدرسة إعدادية في البحرين. طبعاً كان حلمي وحلم أمثالي الالتحاق بالمدرسة الثانوية، لكن انتهى التنظيم الثانوي القديم بولادة التنظيم الإعدادي، مما جعل المعارف ترحّل الطلبة الملتحقين بالثانوية إلى مدرسة الحورة الإعدادية المبنية في فضاء “الدفنة”، والفراغات تحيطها من ثلاثة جوانب، ولا طريق يمر عبرها إلا خلال شارع أبو ذر الغفاري، المحاصر ببيوت “العشيش”. وكانت نوافذ المدرسة تطل على جزء من بيوت فريج الذواودة، وبيوت “السعف” التابعة للتاجر محمد الحساوي، المبنية على قطعة من مساحة فرضة بن سوار. بيت «الكنكية» كان من المقرر أن يشترك أخي يوسف مع أخي الأكبر حسين في شراء أرض أكبر من صاحبها راشد تقي، لكن لم تكن لديه الرغبة القوية في سكن الحورة، خصوصاً وأن الأرض كانت قريبة من “الدفنة”، فاكتفى حسين بشراء قطعة أرض أصغر، يمكنه تسديد قيمتها، وبني عليها غرفاً ثلاث. لكن بعد أن تزوج أخي يوسف قرر السكن معنا، وهذا يعني أن تقسم الغرف على ثلاثة؛ واحدة لأبي وأمي، والثانية لأخي حسين، والثالثة ليوسف وزوجته، مما جعلني أخرج من الحسبة وأبحث عن مكان لإيواء الكتب الدراسة وبعض الكتب الثقافية إلتي بدأت بتجميعها بشكل بسيط. وكان معي محمد ابن خالي عبدالله، الذي كان يعمل في تلك الفترة كمراسل في البنك العربي. «الكنكية”، لا يمكن الحديث عنها، إلا أنها كانت مشروع مخزن فوق المطبخ، ولها باب في نصف الدرج، لكن ارتفاعها كان نصف قامتي وقامة ابن خالي عبدالله، لذا كنا وأفراد الأسرة ندخلها مطأطئي الرؤوس، ونخرج منها بالطريقة نفسها. طبعاً لا أحد يسألنا عن عدد المرات التي اصطدمت فيها رؤوسنا بالسقف. إذ لم تكن تصلح إلا للنوم. وقد قضيت عدة سنوات في هذا الوضع، إلى أن قام أخي يوسف ببناء بيته الخاص القريب من بيت راشد الدوسري وانتقل إليه، وحينها تمكنت من النوم على سرير، والقيام بدعوة الأصدقاء للسمر معي في الغرفة، بعد أن عشت طويلاً استقبل الأصدقاء عند القلمة “عمود النور” أو أمام دكان علي أكبر، الذي كان ملاصقاً لبيتنا. حالة بن أنس صدر للكاتب والناشر يوسف أحمد ثاني المريخي كتاباً بعنوان (مذكراتي ومشوار حياتي) “الطبعة الأولى 2009”، والمريخي من مواليد 1936م، حي “الحورة” أو “حالة بني أنس”، نسبة إلى “سعد بن أنس”، حيث عاش وترعرع وقضى طفولته وصباه وشبابه ورجولته فيها. في كتابه يصف الكاتب الحالة البيئية المزرية التي كانت تعيشها الحورة. وكان من المجالس المعروفة والشهيرة في الحورة “حالة بني أنس”، في فترة الأربعينيات والخمسينيات، مجلس الشيخ جابر بن عبدالرحمن آل خليفة، ومجلس فهد وناصر أبناء جاسم بن عبدالوهاب الفيحاني، ومجلس أحمد بن يوسف بن هلال بوشقر، ومجلس جبر بن عبدالله الدوسري، ومجلس محمد بن عمر الرميحي، ومجلس علي صليبيخ، ومجلس العسومي ، أنشئ في الستينيات، ومجلس عبدالوهاب محمد العامر، ومجلس علي تلفت. ويذكر المريخي “بعد دفن أرض المنطقة بالرمال ومخلفات البناء المختلفة، قرر البعض البناء في تلك الأرض “الصبخة”، فاكتشف وسط العمل في البناء بأن أجزاء من الجدران تغوص في الأرض من مختلف الجهات، كأن زلزالاً عنيفاً ضرب المنطقة!. ويقول خليفة غانم الرميحي في إحدى لقاءاته إنه في المنطقة الشمالية الغربية عند نهاية الجسر من الجهة الغربية هناك ‘’مشعورة ‘’ كانت تعتبر المنطقة التي يأخذ منها ‘’الحصى ‘’ ويحمّل على الحمير لبناء البيوت. وهذه المنطقة كانت عامرة بـ«حظور” أهل الفريج منهم المرحوم ‘’سنجل ‘’ وأبناء جبر عيد وصالح وسند وعبدالله، وكانت هناك “حظور” سالم النيباري، وفي الزاوية الشرقية الشمالية هناك بيوت التي تبدأ ببيوت ‘’بيت العمر’’. أما في الجهة الغربية لهذه الجزيرة فكان هناك ‘’التيل ‘’، ومن شرقي التيل كان بيت عبدالله بن جبر الدوسري، ومن الجنوب كانت هناك منطقة ‘’خريس’’ تعتبر منطقة لتراكم الزبالة التي تتخلص منها البلدية، وتقوم برميها في هذه المنطقة. أما في جهة الشرق فتسكن عوائل الموسى وصليبيخ، والعسومي وبوجندل جهة المقصب. سفن بن سوار يذكر الرميحي خلال لقائه بالزميل عبدالرحمن الدوسري: في دوار التيل كان يوجد دوار لدخول السفن لعائلة بن سوار، الذين كانوا في تلك الفترة يمتلكون سفن للغوص، وبعد أن تسقي المايه “يحصل مد البحر” يبدؤون بإدخال تلك السفن إلى الدوار، كانت هذه المنطقة عميقة وكانت مياه البحر تصل إليها، وهي المنطقة التي تسمى الآن بفريج بن سوار. بيت راشد بن جبر الدوسري هو واحد من البيوت القديمة في منطقة الحورة، وله مكانته، فراشد، إن لم تخنى الذاكرة، عمل فترة من الوقت كسائق للشاحنات الكبيرة في شركة النفط، ثم استقال للعمل في التجارة الحرة، منها بيع العقار وتأجير سيارات التاكسي. وكان لراشد ثلاثة إخوة هم فيصل والمرحوم سعود ويوسف. وكما أذكر فإن ابنة راشد بن جبر تزوجها الشيخ أحمد بن حمد بن عيسى آل خليفة، أخ الشيخ سلمان بن حمد حاكم البحرين الأسبق. وكنا نرى الشيخ أحمد في زياراته، يمر على المجلس القديم في بعض الأحيان، لنسمع تعليقاته علينا وعلى بعض الأمور التي لا تعجبه. وكنا نستقبله في المجلس القديم الواقع تحت مبنى بيت فيصل الدوسري، ثم انتقلنا مع انتقال المجلس إلى البيت الجديد الذي بناه راشد الدوسري، والذي كان قريباً من الأرض التي اشتراها أخي يوسف من راشد الدوسري وبني عليها بيته. المجلس يتحول إلى مدرسة يذكر الباحث البحريني عبدالله عبدالعزيز الذوادي في كتابه “رحلة العمر”: “ في عطلة العام الدراسي 57/58 افتتحت مع الأخ راشد بن محمد علي صليبيخ مدرسة صيفية في مجلس جبر الدوسري بالحورة، واستعرت أدراجاً ومواد دراسية من وزارة التربية والتعليم. كنا ندرّس الرياضيات واللغة العربية والإنجليزية، ومن التلاميذ الذين التحقوا بهذه المدرسة الصيفية؛ د. مصطفى السيد الرئيس التنفيذي السابق لبابكو، وبدر وشقيقه ومحمد عبدالملك وغيرهم ما يقرب من 30 طالباً، وكنا نتقاضى عن كل طالب عشر روبيات في الشهر، وأعفينا بعضهم لفقرهم . وأذكر أنه في 14 يوليو العام 1958 قامت ثورة تموز في العراق، ومن شدة فرحنا بهذا الحدث، عطلنا الدراسة فيما تبقى من اليوم الدراسي ابتهاجاً بالثورة. العجيب أنه في ذلك اليوم، وعلى غير العادة في فصل الصيف هطلت الأمطار”!. في تصوري أن راشد بن جبر الدوسري هو أول من بني في “الدفنة”، في الجانب القريب من بيتهم الأول، وعلى حدود شارع أبو ذر الغفاري، متجهاً إلى داخل “الدفنة”، خصوصاً بعد أن خلط هذا الجزء من الدفان بالرمل والأحجار، مما ساعد في أن يبدأ آخرون بشراء الأراضي وبنائها. بيت سعيد المطل على البحر من أول البيوت التي بنيت في وسط “الدفنة”، بعيداً عن بيوت الآخرين، مواجهاً للبحر؛ كان بيت حسين سعيد، أخو الفنان التشكيلي المعروف حميد سعيد. في الواقع كنا نرى هذا البيت الجديد القائم على “الدفنة”، ونتحدث في ما بيننا: “هل وضعت له أسس قوية تصل إلى قاع “الدفنة” أو سطح البحر الذي أقيمت عليه “الدفنة”. فـ«الدفنة” في تلك الفترة وان كانت ممتلئة بالقمامة، إلا إنها هشة، وبالتالي ، فإنه بمرور الوقت سيهبط البناء، الذي كان مرتفعاً. ونظراً لعدم توفر صورة لهذا البيت الذي أطلقت عليه البيت الأخضر، بسبب لونه، طلبت من الفنان حميد سعيد أن يعمل على إرسال صورة البيت، وقام بإرسال الصورة، فله مني جزيل الشكر. كان بيت سعيد من أهم البيوت التي كنا نستظل بها، في طور البناء، والذي كما أظن استغرق وقتاً طويلاً، مما ساعدنا كأطفال على الاحتماء بظل البيت، للقراءة أو المراجعة أو الكتابة والتدخين. في ظل هذا البيت كتبت كثيراً من القصص القصيرة والمسرحيات، وأشكال من الرواية متأثرة بتجربة الأديب الذائع الصيت في تلك الفترة محمد الماجد، لم تنشر. «معاياة» بين لاعبين كان مجلس راشد الدوسري، سواء القديم أو الجديد، هو المكان الذي نجلس فيه نحن أصدقاء جبر بن راشد ، وكان راشد بن جبر الدوسري أحد الرجال الكرماء الذين التقيت بهم في حياتي. بالطبع أبنائه كلهم على كرم أبيهم، ففي شهر رمضان تكون مائدة الإفطار ممدودة على طول المجلس، وفي كثير من الأيام يكون فطورنا في المجلس، وسحورنا أيضاً، وهناك أصدقاء جبر الدوسري؛ محمد بوكوات أو الكويتي بو شقر، وعبدالله حيدر ويوسف محمد بوشقر، وثاني صخير، وآخرون لا أتذكرهم الآن. كنا مجموعة حالمة، لم يواصل جبر بن راشد دراسته واكتفى بالعمل مع والده في الأعمال الحرة البسيطة، كتجميع الإيجارات. وأكثر أبناء راشد توفوا وهم في سن الشباب، لكن الفترة التي عشناها معهم، كانت كافية للتعرف على معدنهم العربي الأصيل وحبهم و كرمهم ووفائهم للأصدقاء والأهل. أخاه الأصغر حمد واصل دراسته في الهند، وفي مدينة بونا تحديداً التي كان يدرس فيها عشرات الطلبة البحرينيين. وكنت أتابع دراسته هناك، وكان معه صديقه، الذي عمل معي في مختبر السلمانية وهو عبدالحميد محمد صالح، الذي ترك الوظيفة من أجل الدراسة في الخارج. لكن حمد راشد الدوسري توفي مبكراً هو وأخاه الأصغر هزيم. راشد يلعب بأعصابنا نحن الذين كنا في أوائل مرحلة المراهقة، نرى المستقبل أمامنا مفتوحاً مثل البحر والسماء، نرى الحياة ما هي إلا لعبة، وعلينا أن نتقن هذه اللعبة. ولذلك كان يأخذنا جبر راشد الدوسري في سيارته. علينا أن نتذكر أنه أول واحد في شلتنا، يسوق سيارة، كنا بوكوات وعبد الله حيدر ويوسف بو شقر ، الذي تعلم سياقة السيارة، وهو الذي شجعنا على ضرورة تعلم السياقة. وإذا كان هذا هو الجزء الإيجابي في السياقة، فإن هناك جانباً آخر سلبي. ولأننا لا نفهم طبيعة السياقة، فإذا أراد أن يضحك جبر منا، ومن رعبنا، كان عليه وهو يسوق السيارة في الشوارع أن يبعد يده عن السكان “مقود السيارة “، لنصاب بالرعب خوفاً من الاصطدام. طبعاً هو يعرف أكثر منا، إن قيامه بهذه العملية ليست إلا من أجل الضحك ، فالسكان “ المقود” حينما يكون وضعه طبيعياً والعجلات في مكانها الصحيح، أي متوازنة، فإن السيارة ستكون في طريقها الصحيح. «نخل» الزلاق من المهم أن نذكر أننا بعد أن ندور في منطقة “عشيش” القصيبية المقابلة لمدرسة القضيبية للبنات، نذهب بين فترة وأخرى إلى نخيل الزلاق للسباحة في البركة ذات المياه الباردة ، حيث نقضي وقتاً رائعاً في الدولاب “البستان”. خباز «ودخت» يقول خليفة غانم الرميحي: “”من الأشياء التي تميز أهل الحورة ولا أنساها شخصية حجي غلوم شرفي، الذي كان يسكن غربي العين مباشرة وكان يمتلك أول خباز في الحورة، وكان يبيع إسمنت وجص ونورة، حتى إذا جرح أحد من أبناء الحورة، يذهب مباشرة إلى غلوم فيداوية بالنورة التي يضعها على الجرح، فيتوقف سيلان الدم وبعد ذلك يلتئم الجرح، وأنا ممن عالجهم حجي غلوم أكثر من مرة . وما زالت الجروح في رأسي موجودة وشاهدة على ذلك. يوسف شرفي يكتب قصيدة كنت وعبدالحميد القائد، في تلك الفترة نقوم بتدريبات كتابة الشعر، أو ما كنا نظنه شعراً، وهو محاولات مراهقين لتأكيد ذاتهم عبر الكتابة. وكان يوسف شرفي الذي انتقل إلى المنطقة بعد بناء بيتهم في “الدفنة”، شرقي بيت راشد الدوسري، وهو صديق مقرب لعبدالحميد القائد، بدأ بالاتصال بنا، خصوصاً وهو، إن لم تخني الذاكرة، يقوم بالغناء في فرقة نادي الولعة، حين كان هذا النادي يمارس نشاطاته في مبنى يقع مقابل مدرسة القضيبية، أي أنه كان مشروع مغني لو أنه واصل في هذا الطريق. يوسف شرفي، جاء لنا في إحدى الأمسيات التي كنا نجلس فيها تحت عمود النور، المقابل لدكان أحمد بن ريحان، وقرأ قصيدته علينا، وطلب منا إبداء الرأي فيها. لا أذكر موقف عبدالحميد القائد من القصيدة، لكنني اذكر إنني قلت له :إن القصيدة لم تعجبني ، فضحك مني قائلاً: إن القصيدة لنزار قباني، فقلت: وإن يكن، قال: لو قلت لكم أنها لنزار ستعجبون بها، لكن لأنني قلت كاتبها اعتبرتموها ضعيفة. المهم أن يوسف شرفي تصور أننا نعجب بقصائد المشهورين فقط، خصوصاً إذا كانت أسمائهم موقعة على القصائد. وهو لم يعرف إننا في تلك الفترة تجاوزنا قصائد نزار قباني ودخلنا راكضين إلى تجارب بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي، وبعض الشعراء الغربيين أمثال رامبو وأراغون وإيلوار ولوركا وغيرهم من الشعراء الإنجليز والفرنسيين.