^  في مرحلة انتقال العلاقات بين المجتمع، بأفراده ومؤسساته المدنية من جهة، والدولة بمسؤوليها وهياكلها الإدارية من جهة ثانية، إلى الحالة الصدامية تعبيراً عن فشل الجميع في القبول بأي شكل من أشكال صيغ التفاهم السلمي الحضاري، ترتفع الدعوات المنادية إلى الحوار، وتطغى أصوات الجهات الحاثة على ضرورة الجلوس إلى موائد التفاهم السلمي على نعيق تلك المستمرة في التأجيج، والمصرّة على سكب الزيت على نيران العنف المندلعة في أرجاء البلد المعني، أو حتى بين البلدان المتصارعة. ولعل في دعوات الحوار التي سيطرت على أجواء البلاد العربية منذ أواخر العام 2010، هي أحد الأمثلة الحية التي تشهد على صدق قول ترافق دعوات الحوار مع بروز الحالات الصدامية بين القوى المجتمعية، وتنامي الشعور لدى الأطراف كافة بضرورة التحول من الحوار عبر فوهات البنادق إلى التفاهم على قنوات الجدل. الظاهرة ذاتها تتكرر أيضاً كما هو الحال في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي عند اندلاع الصدامات العنيفة أو المسلحة بين دولتين أو شعبين، وعندما تبلغ الصدامات ذروتها دون قدرة أحد الطرفين على حسم الصراع لصالحه بشكل بيّن. حينها يلتفت الجميع نحو العلاقات القائمة على أسس حضارية طورتها المجتمعات البشرية عبر ملايين السنين من محاولات انتقال الإنسان من بيئته الحيوانية إلى مجتمعه الحضري. وغالباً ما تنتهي نتائج الحوار، وخاصة في الحالات المعقدة، إلى اتفاق أطرافه إلى ضرورة رسم خارطة طريق واضحة المعالم، تضمن سير المتحاورين في تلك الطريق دون غيرها، بعد أن توضع عل جانبيها علامات واضحة تحدد طول المسافات التي تم تجاوزها، وتلك التي لابد من قطعها من أجل الوصول إلى نهاية الطريق المؤدية، بعد ضمان سلامة السائرين فيها إلى الأهداف المشتركة بين الأطراف المتحاورة/المتصارعة كافة. ولكي تكون خارطة الطريق التي نتحدث عنها مجدية وفاعلة ينبغي أن تتوفر لها مجموعة من الظروف والضوابط والمقومات التي تضمن نجاحها، وقبول الأطراف الضالعة في الحوار بالنجاحات الذاتية التي تحققت من وراء القبول بالسير في طريقها وربما طرقاتها. ويمكن إيجاز كل ما هو مطلوب توفره في النقاط التالية: 1. وصول الأطراف المنخرطة في المعارك الصدامية العنيفة إلى قناعة صادقة ملموسة بعدم قدرة أي منها على حسم الصراع لصالحها، وبالقدر ذاته عدم وصول الطرف الآخر إلى حالة من الإعياء واليأس التي ترغمه، موضوعياً على الانتقال من حالة الإصرار على مواصلة الصدام إلى مرحلة القبول بالحوار كوسيلة وحيدة لوضع حد لتلك الصدامات. التقدير الصحيح لهذه اللحظة التاريخية الانتقالية هو أحد ضمانات قدرة تلك الأطراف على وضع معالم صحيحة لخارطة طريق قابلة للتطبيق، وتمتلك مقومات النجاح المطلوب توفرها عند تلك اللحظة. 2. اتفاق الأطراف كافة، وخاصة في حال طول المسافة التي ستقطعها تلك الأطراف السائرة على هدى خارطة الطريق المتفق على معالمها الرئيسة، على وضع محطات استراحة متباعدة تفصل بين مسافة وأخرى، بعد أن تحدد لكل واحدة من تلك المسافات الموضوعات المختلف عليها، وتقترح الحلول الوسطية المناسبة لها، والقادرة على جعل الأطراف المتنازعة راضية عن نتائجها ومقتنعة بجدواها، وترى فيها تحقيقاً ولو جزئياً لانتصارات وعدت جماهيرها بها. هنا ينبغي الاتفاق على عدم العودة للسير في المسافات التي تم قطعها، والقبول الطوعي الحضاري الناضج بالانتقال من محطة إلى أخرى، دون الالتفات نحو الخلف أو التعلق بانتصارات محتملة، وربما تكون موهومة لم ولا يمكن أن تتحقق. 3. توفر المرجعيات الضرورية، أفراداً أو مؤسسات مهنية، أو مدنية، أو غير حكومية مستقلة، التي من الخطأ الاستغناء عنها، أو حتى تهميش دورها، تقبل بحكمها الأطراف المتصارعة، وتكون كلمتها نهائية، قابلة للنقاش لكن دون النفي لها أو تراجع أي طرف عنها، لضمان الاستمرار في التقدم، وعدم العودة للوراء، مع ضرورة التمييز بين تلك الخطوات التراجعية التكتيكية الضرورية من أجل التقدم للأمام، وتلك المقصود منها جرّ خارطة الطريق إلى محطات مراحل تم إنجاز متطلباتها، وليس هناك ما يبرر العودة لها. يجدر التحذير هنا أيضاً، من احتمال توهم أحد الأطراف بأن إعادة عجلة خارطة الطريق نحو الخلف من أنه مساعدته على تحقيق أهداف تكتيكية، تبدو غير منظورة من لدن الأطراف الأخرى، لكنها في حقيقة الأمر، تؤدي في بعض الأحيان إلى جرّ الجميع، بمن فيهم الطرف ذاته، نحو طرق فرعية موحلة، تهدد سلامة السائرين على هدى تلك الخارطة، وتوصلهم إلى نهايات أخرى ليس من بينها الأهداف التي وضعتها تلك الخارطة، وقبل بها الجميع. 4. قبول الأطراف على نهاية ما يعرف بالنجاحات المشتركة المتبادلة “Win Win Ends”، بمعنى لن تقود خارطة الطريق إلى نجاح أحادي ينعم به طرف دون سائر الأطراف الأخرى. مثل هذه النهاية هي نتيجة طبيعية منطقية لموازين القوى القائمة بين الأطراف المتصارعة، التي لم تكن لتلجأ إلى تحديد خارطة للطريق لو كان من بينها، كما ذكرنا أعلاه، من هو قادر على التفرد لحسم الصراع، بشكل واضح وصريح لصالحه. إن مجرد القبول بولوج خارطة طريق معينة، هو في حد ذاته قبول ضمني بمبدأ النجاحات المشتركة المتبادلة، بغض النظر عن نوايا من يسيرون على دربها. 5. تحاشي، قدر الإمكان الاستعانة بأي من القوى الخارجية، بما في ذلك المنظمات الدولية التي قد تبدو ظاهرياً مستقلة وليس لديها “أجندات” ذاتية، إلا في الحالات القصوى الضرورية. فالتاريخ يكشف عدم استقلالية تلك المنظمات، إلا في بعض الحالات النادرة، والتي كانت هي الاستثنائية التي تثبت قاعدة وجود مصالح ذاتية لتلك المنظمات، تقررها الظروف الدولية القائمة، وتتحكم فيها مصالح الدول العظمى بالمناطق التي يحتدم فيها الصراع، وتحتاج إلى إشراف دولي. ذلك لا يقودنا إلى استنتاج مفاده التشكيك في تلك المنظمات، والطعن في أهدافها، أو حتى استفزازها، أو إهمالها، بقدر ما يحثنا على البحث عن أفضل السبل التي تتيح للأطراف المعنية تحقيق الاستفادة القصوى من قدرات تلك المنظمات عند رسم معالم خارطة الطريق المتفق على القضايا الأساسية التي تعالجها، دون إتاحة الفرصة للقوى العظمى لاستغلال ذلك القبول بذلك الطلب، لتجييره لمصالحها الأنانية الخاصة. في ضوء كل ذلك، ربما آن الأوان اليوم للقوى المتصارعة في الساحات العربية المختلفة، أن تبتعد قليلاً عن ساحة الصراع، وتحاول أن تلقي، من مسافة معينة يمكن لها تحديدها بنفسها، نظرة شمولية على تلك الساحة، فلربما قادها ذلك إلى البحث عن سبل أكثر تحضراً من مجرد الاستمرار في الحوار الصدامي، الذي باتت تحرّكه عجلة القصور الذاتي، كما تعلمنا قوانين الحركة في الفيزياء، وتخرج من تلك النظرة الاستراتيجية بخارطة طريق حضارية مجدية وقابلة للتنفيذ، بعيداً عن أية حسابات ذاتية غير تلك التي تخضع لصالح الوطن، وتعبّر عن مصالح المواطن، وليس سواها غير أهداف أنانية ذاتية ضيقة