^  من الظواهر التي رافقت الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية خلال العامين المنصرمين، وعرفت باسم «الربيع العربي»، هي غياب منظمات المجتمع المدني العربية عنها، أو عدم قدرتها على ممارسة الدور المناط بها القيام به في حالات شبيهة بها. ففيما عدا حالات تكاد أن تكون استثنائية متفرقة، ومن قبل المنظمات النشطة في المجال الحقوقي مثل جمعيات واتحادات المحامين، أو لجان حقوق الإنسان، يصعب الحديث عن واحدة إقليمية أو حتى قطرية قامت بما هو مطلوب منها، دون إمعان في التسييس في اتجاهيه السلبي والإيجابي. الملاحظة العامة التي يمكن أن نسوقها في هذا المجال، والسمة الغالبة التي سيطرت على سلوك تلك المنظمات هي إما العزوف عن أداء مهامها، فوجدناها تقف على خط يبدو أنه حيادي، لكنه في حقيقة الأمر تخلت عن المسؤولية في أحرج الظروف وأصعب الحالات، وإما انحياز سياسي متطرف مغرق في تسييس غير مبرر، أفقد المنظمة المعنية مصداقيتها، بعد أن حرفها عن مسارها الصحيح. حالات العزوف أو الإغراق، مارست دوراً سلبياً أفقد منظمات المجتمع المدني العربية الكثير من خصائصها التي كانت خلال تلك الأحداث، وماتزال، اليوم، في أمس الحاجة لها. ولا بد من التأكيد هنا على أن مثل هذه الحالة المشوهة التي تعاني منها منظمات المجتمع المدني اليوم، ليست طبيعية، ومن ثم لا نتوقع لها، ولا ينبغي لها أيضاً أن تستمر، فلدينا نحن العرب حالات سابقة أخرى نجحت فيها منظمة مجتمع مدني مثل الاتحاد العام لطلبة فلسطين، قبل تشكل منظمة التحرير الفلسطينية، أن تمارس دورها المهني والسياسي بتوازن خلاق أهلها لأن تترك علامات مضيئة في تاريخ مسيرتها. مارس الاتحاد العام لطلبة فلسطين، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي دوراً مزدوجاً، بشكل مبدع، فرضته عليه حينها طبيعة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فبالإضافة إلى دفاعه عن حقوق الطلاب الفلسطينيين، ورعاية مصالحهم، بما فيها تأمين مقاعد دراسية لهم في العديد من البلدان العربية والدولية، لم يهمل الاتحاد دوره الوطني في التصدي لقضايا فلسطينية معقدة، أفرزها ذلك الصراع، مثل أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وإبراز قضية فلسطين في المحافل الدولية والعربية، بل شكل الاتحاد الحاضنة الطبيعية التي مدت منظمة التحرير الفلسطينية، في بداية تأسيسها، بالكوادر القيادية التي كانت في أمس الحاجة لها، ولم يبخس الاتحاد أيضاً حق التنظيمات الفلسطينية المنضوية تحت راية منظمة التحرير، فزودها هي الأخرى بالكوادر الإعلامية والسياسية القيادية التي كانت تنشدها. لم يكن الاتحاد العام لطلبة فلسطين، في تلك الفترة حالة استثنائية ناجحة معزولة، بقدر ما كانت الأكثر حضوراً بين منظمات عربية أخرى، من بين أهمها اتحاد المهندسين العرب، واتحاد المحامين العرب، اللذين تشكلا في تلك الفترات الذهبية من تاريخ منظمات المجتمع المدني العربية. غياب منظمات المجتمع المدني عن الأحداث الأخيرة، لم يكن محض الصدفة، بقدر ما كان نتيجة منطقية للواقع الذي عاشته خلال النصف قرن الماضي، والذي جرد تلك المنظمات من دورها الطبيعي الطليعي بفعل الأسباب التالية: 1. الإمعان في تسييسها، من قبل الأطراف كافة، قوى معارضة وجهات حاكمة. شمل ذلك التسييس الأعضاء وانعكس على البرامج، وتجسد في السلوك. مارس ذلك السلوك من قبل الأطراف السياسية سواء تلك التي في السلطة، أم التي تصدرت صفوف المعارضة، دوراً تخريبياً شبه منظم، تحولت منظمات المجتمع المدني العربية، جراءه، إما إلى أبواق إعلامية للمنظمات السياسية -حاكمة ومعارضة (بكسرالراء) على حد سواء- يروج لبرامج القوة المسيطرة، ويحاول الحط من الأخرى المنافسة أو المعادية، أو إلى دوائر ذيلية أفقدت منظمات المجتمع المدني استقلاليتها، وجردتها من القدرة على القيام بمهامها المهنية والمجتمعية. 2. تجفيف منابع مواردها البشرية والتمويلية، بتحويلها إلى ساحة صراع سياسي دائم ومتأجج، عند الفشل في تجييرها لصالح فئة ضد فئة أخرى. مثل هذا الصراعات لم تحرف عن أهدافها فحسب، بل ولدت حالات مرضية تسللت إلى إدارات تلك المنظمات، فشلت حركتها في حالات معينة، وشوهت صورتها في حالات أخرى. النقطة الأهم، والأكثر خطورة في هذه العملية هو حرمان تلك المنظمات من معين القوى الشابة التي كان من المفترض أن تزودها بالدماء الجديدة التي تمدها بالقدرة على الاستمرار والتطور في آن. أدى ذلك إلى إحكام قبضة المنظمات السياسية على إدارة تلك المنظمات، التي تحولت إداراتها القيادية إلى متاحف تأوي العجزة الهرمين ممن تسلقوا، بممارساتهم الانتهازية، سلالم الوصول إلى تلك المراكز القيادية، فاحتكروها، وصادروا من الآخرين، وهم قلة نادرة، من حق الوصول لتلك المناصب. 3. تغييبها عن دورها الطبيعي، على الصعيدين المهني والمجتمعي، من خلال تهميش ممنهج مارسته القوى السياسية النشطة، التي رأت في منظمات المجتمع المدني الناضجة والناجحة، تحدياً ديمقراطياً لا تملك القبول به واستيعاب آفاقه أولاً، وخطراً مجتمعياً لا يمكن لأفقها الأناني الضيق أن يواكب مسيرته ثانياً، وشكلا تنظيماً راقياً ليست قادرة على التعايش السلمي معه، والإبداع من خلاله، فكان رد القوى السياسية انتقامياً، ولو بشكل غير واعٍ، أدى إلى وأد منظمات المجتمع المدني، بعد أن فشلت، كل واحدة من تلك القوى السياسية على حدة، في تجييرها لصالح برامجها الذاتية. 4. التآمر الممنهج ضدها، من خلال خلق منظمات شبيهة موازية ومنافسة لها في آن واحد، فشهد العالم العربي حالة تفريخ فطرية (من فطر) ولدت العشرات، إن لم يكن مئات من منظمات المجتمع المدني الكرتونية، المجردة من أي برنامج آخر سوى منافسة المنظمات الأصلية المشابهة، أو جرها إلى صراعات ثانوية، تفقد خلالها نسبة عالية من طاقتها الإبداعية. مثل تلك النزاعات، شجعت العناصر الانتهازية على الخروج من جحورها، ورفع الشعارات المزايدة التي تطغى على تلك التي ترفعها المنظمات الأصلية المشابهة، وتفسح المجال أمام تلك المزورة على البروز، ومن ثم تبوؤ مراكز قيادية، في المنظمة ذاتها، وفي المجتمع أيضاً. هذا الواقع المأساوي الذي باتت تتخبط فيه منظمات المجتمع العربي، كان من أهم الأسباب التي وقفت في وجه رغبة البعض منها في المساهمة بشكل إيجابي في الأحداث الأخيرة التي مرت بها المنطقة العربية، ولربما يدفع مثل هذا الواقع السلبي، الكثير ممن يهمهم أمر العمل المجتمعي، إلى التفكير الجدي في البدء في التأسيس لخلق منظمات مجتمع مدني عربية وإقليمية من طراز جديد، قادرة ومؤهلة في آن لأن تمارس دورها المجتمعي والمهني على حد سواء بمهنية راقية، وأداء شفاف، يمكنها من كسب ثقة القطاع الذي تمثله، والفئة الاجتماعية التي تدافع عن مصالحها، مما يمكنها الوقوف بشدة في وجه كل من يحاول إيقاف مسيرتها، تحت مسميات كثيرة متخفية. منظمات المجتمع العربي في أمس الحاجة اليوم إلى ربيع حقيقي يعيد لها الثقة في نفسها، ويكسبها ثقة من تخاطبهم، ويحميها ضد كل من يحاول التسلط عليها، أو حرفها عن طريقها الصحيح الذي يوصلها إلى أهدافها النبيلة التي يفترض أن تؤسس من أجل نيلها بعد الوصول لها