بعد الحالة الثورية أو ما سمي بـ “الربيع العربي” أصبحت الشعوب تبحث عن منطق الدولة لا عن أساليب الاستبداد. والانتخابات المصرية الأخيرة أوضحت كم أن الشعوب العربية تحاول أن ترسم مستقبلها الخاص. هناك رؤية عربية عامة لدى الناس تريد أن تنعتق من الحاضر إلى المستقبل، وهذه الرغبة لا يمكنها أن تأتي بسهولة، بل هذا هو ما شغل المفكرين والباحثين العرب خلال القرنين الماضيين، كيف يمكننا أن نتقدم؟ ولماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ هذا هو السؤال. ويبدو أن سؤال تشكيل الدولة بقي راسخاً في الذهن، والناس يريدون إجابة لهذا السؤال. حاول ابن خلدون في مقدمته أن يضع الخصائص العربية انطلاقاً من قراءته التفصيلية للتاريخ، ولهذا كانت هذه المقدمة فاتحة تاريخه “العبر”، مما يعني أن سؤال كيفية إقامة الدولة المرغوبة ليس سؤالاً ثانوياً وإنما هو سؤال المرحلة الحالية. عاد سؤال الدولة لأن الثوار أسقطوا الحاكم ولم يسقطوا الثقافة، أسقطوا الطاغية، ولم يسقطوا الطاغية بداخلهم. ومن هنا جاء العيب الكبير في أي مجتمع ومفاده غلبة الحق الخاص على المصلحة العامة، لهذا جاء كل من شارك بالثورة يريد أن يفرض نمط الحكم الذي يريده. جاء الإخوان المسلمين لتغليب الحق الخاص لها على الحق العام للجميع، ولن ننسى كلمة مرشدهم العام آنذاك حين قال : “طز بمصر”. وهؤلاء الذين لا هوية مصرية لديهم بل ينطلقون من أممية أسطورية ساذجة هم الذين يريدون حكم مصر. وربما قال هذه الكلمة “طز” أكثر من “إخواني” في دول الخليج المتعددة، وهذه مشكلة كبيرة. في كتاب “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو وردت فكرة مصلحة الذات والمصلحة العامة، يقول: “ كلما كانت الدولة أحسن تكويناً كلما تغلبت في نفوس الناس الشؤون العمومية على الشؤون الخاصة، بل ثمة شؤون خاصة أقل بكثير لأن حملة السعادة المشتركة توفر نصيباً أوفر لسعادة الفرد بحيث لا يبقى للفرد إلا القليل يبحث عنه في عناياته ومشاغله الخاصة، ففي دولة حسنة التسيير يطير كل فردٍ على جناح السرعة لحضور الاجتماعات، أما في ظل حكومةٍ فاسدة فلا أحد يحب الذهاب إليها لأن لا أحد يرى نفعاً فيما يصنع فيها”. كما إن معنى الدولة المدنية يرفض بشكلٍ تام الشمولية الأيديولوجية، لأنها حين تكون أيديولوجية تتحول من كونها “دولة” إلى مؤسسة خاصة بالحزب لا دخل للشعب فيها. ولهذا لا يمكن إقامة ديمقراطية في ظل أيديولوجيا شمولية. مصر الآن تتعرض لاختطاف من قبل جماعة الإخوان التي لا تؤمن بهوية مصرية أصلاً، والانتماء الذي لديهم هو انتماء للمشروع فقط، وليس انتماءً للمصريين جميعاً. يريد الإخوان تشكيل مؤسسة إخوانية من خلال الدولة المصرية، ولا يريدون حكم المؤسسات المصرية القائمة أساساً. والشعوب عليها أن تنظر إلى الدرس المصري بعين الاعتبار. في ظل وجود الإخوان على سدة الحكم لن يستطيع الشعب تجاوز سؤال الدولة إلى الجواب، لأن العائق الأيديولوجي هو العثرة في الطريق نحو الدولة التي تحقق المصلحة العامة وتمزج الناس سواسيةً أمام الدستور والقانون. لا يمكن لأي دولة أن تنجح بنموذج أيديولوجي شمولي، ولنا في العراق وسوريا وسواها من الدول الديكتاتورية أكبر مثال، الأحزاب البعثية والقومية أو الإخوانية كلها ستأتي بنتيجةٍ واحدة، هي حالة “اللادولة” لتعيد الساعة عقاربها إلى الوراء، فلا نحن الذين تجاوزنا مشاكلنا، ولا الثوار كسبوا مطالبهم، والمشكلة في تصور معنى الدولة، والذين انتخبوا الأحزاب الشمولية في أوروبا أو في العالم العربي سيعرفون قيمة المدنية مقابل الدول الطالبانية الأيديولوجية التي لا هوية لها.