كتب - طارق مصباح : أخبرني الحاج الثمانيني راشد إبراهيم بورشيد أن مدينة الحد كانت في السابق كالباخرة التي تدور حولها السفن! وتذكر بورشيد مراتع الطفولة، وقال : بيوتنا كانت من “الجريد”، والماء يدخلها في أيام الرياح الشديدة، وكانت “العفاطي” وهي الأسماك الصغيرة تدخل بيوتنا مع أمواج البحر وتؤذي ربات البيوت. زرعت هذه العبارات في ذهني سؤالاً : هل يوجد اليوم ما يعكر صفو العائلات في الحد؟! بالأمس كانت الأسماك الصغيرة، وذهبت مع أيامها، فماذا يوجد، اليوم، في ظل التقدم العمراني؟!! ذكريات ثالث مدن البحرين ما زالت قابعة في أذهان رجالها، فالحد بلغة أهل الخليج العربي هي الأرض التي يغطيها ماء البحر بنحو طفيف عند المد (السقي)، وينحسر الماء عن هذه الأرض عند الجزر (الثبر) لتكون جزءاً واضحاً من اليابسة، ويوجد في الخليج العربي أكثر من مائة مسمى بالحد مثل (حد الذيب) و(حد الجمل). حديث ذو شجون دفعني للتجول في مدينة الحد، دخلت مجالسها وتجولت في فرجانها وقابلت رجالها وشبابها ورسمت لوحةً لحاضر هذه المدينة في تحقيق صحفي.. وإليكم الصورة كاملةً: بعد طول انتظار.. جاء الفرج! في مجلس أحد وجهاء الحد كانت الانطلاقة في مساءٍ هادئ هدوء الحد الوادعة. علي المسلم أشاد بتوجيهات الحكومة لبناء 4000 وحدة سكنية لأهالي الحد والمناطق التي تحيطها بعد أن عاشت المنطقة تأخراً لافتاً لمشاريعها الإسكانية، وقال : إن أول مشروع للإسكان كان منذ نحو 35 سنة في الشمال الشرقي منها؛ إذ تم بناء ما مجموعه 50 بيتاً فقط، ويتمنى الأهالي، اليوم، أن ينجز مشروعهم السكني وأن تراعى فيه الأمور الفنية وتوفير الخدمات. انتقل الحديث إلى الزميل الصحافي أحمد زمان، وهو من أبناء الحد، والذي حدثنا يوم كانت المدينة يفصل بيوتها شارع واحد يقسمها إلى قسمين: شرقي وآخر غربي، ويتخلل كل قسم منهما طرقات ضيقة على جانبية؛ إذ تتمركز مساكن عائلات الحد فيها مؤدية إلى الشاطئين الغربي والشرقي للمدينة. وأشاد زمان بتوسع شوارعها ونموها العمراني والسكاني، لافتاً إلى ضرورة الانتباه إلى ظاهرة تزايد عدد العمالة العازبة الآسيوية التي أثرت على التركيبة السكانية لمدينة عريقة مثل الحد! المصانع تقتلنا غادرت المجلس، وذهني ما زال معلقاً بحديث الحاج راشد البورشيد الذي حدثني عن أكبر ما كان يعكر صفو حياة أهل الحد قديماً، فتوجهت إليه في اليوم التالي ليحدثني عن أكبر هموم أهل الحد اليوم، وبالفعل لخص لي المشكلة وهي تزايد عدد مصانع المنطقة الصناعية في الحد والتي تنفث أبخرتها وسمومها وملوثاتها في الجو والبر والبحر بخاصة في مواسم اشتداد الرياح! كان لا بد من استطلاع آراء سكان المدينة للتحقق من واقعية المشكلة، فالتقيت عبدالكريم أحمد عبدالنور الذي أبدى تذمره من هذه المشكلة التي أخذت أبعاداً صحية أدت إلى انتشار الأمراض الخطيرة بين السكان بشكل لافت في السنوات الأخيرة، وقال: إن مرض السرطان أخذ معه العديد من الأحباب والأقارب. واتفق معه مبارك مخيمر الذي أوضح أن المصانع ازداد عددها منذ مطلع الثمانينيات، ومعها تعالت أصوات المواطنين ونداءاتهم واستغاثاتهم التي أوصلوها إلى جميع المسؤولين، وقال : لم نجد من يسمعنا هنا!! وبما أن حديثنا عن الجانب الصحي، فلنستمع إلى عبدالله السادة وهو يحدثنا عن الحاجة الملحة لتمديد عمل المركز الصحي الجديد إلى الساعة 12 مساءً بدل أن يغلق في التاسعة، وأن يفتح أبوابه للمراجعين أيضاً أيام الجمع والسبت كبقية المراكز الصحية في المملكة. متنزه الأمير خليفة والمركز الصحي وفي الشأن نفسه، طالب كمال خادم باسم عدد من الأهالي بإنشاء قسم للعلاج الطبيعي وتوفير سيارة إسعاف وزيادة عدد أطباء الأسنان، لافتاً إلى أهمية النظر إلى هذه الاحتياجات في ظل تزايد عدد المراجعين من الحد والمناطق القريبة منها التابعة للمركز الصحي نفسه. كما ناشد إدارة المرور بتوفير دوريات لمخالفة الشاحنات التي تقف بين الأحياء السكنية، وأن يعاد النظر في بعض الأرصفة والتقاطعات المرورية التي تكثر فيها الحوادث المرورية الخطرة. وتفتقر مدينة الحد إلى الحدائق، وهي ما زالت تعاني من هذا الجانب، إلا أن مشروع منتزه الأمير خليفة بن سلمان الذي فتح أبوابه للجمهور نهاية 2011 أعاد الثقة والسعادة إلى الناس، وهذا هو المواطن مالود محمد أشاد بهذا المشروع وبالمشاريع الخدماتية مثل المجمع التجاري وزيادة عدد المدارس وإنشاء المكتبة العامة، وقال إن الأهالي يشعرون بتطور مدينتهم وتحسنها عاماً بعد عام. نواخذة البحر هذا التطور الذي حدثنا عنه الأهالي طال صيادي الحد، فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أصبحت الحد بندراً من بنادر الغوص في الخليج العربي، لذلك اشتهر أهل هذه المدينة بمهنة الغوص قبل اكتشاف النفط، لذا نجد أن لكل عائلة من عائلاتها ارتباط وثيق بالبحر كونه المصدر الرئيس فيها، وإلى وقت قريب كانت الحد من المواقع المهمة لصيد الأسماك في البحرين لما تمتاز به سواحلها من كثرة المصائد المثبتة بشواطئها “الحظور”. فهل مازال البحر كما السابق غنياً كريماً سخياً بخيراته؟! أم أن أمراً آخر حدث؟! توجهت إلى مرفأ الحد الذي افتتح في أكتوبر 2011، والذي أنشئ ليلبي احتياجات الصيادين ومتطلباتهم من أرصفة ومنشآت وخدمات ومرافق لتكون منطلقاً جديداً لجهود دعم الصيادين وفقاً لاستراتيجية تنمية الموارد البحرية في مملكة البحرين، إلا أن عدداً من نواخذة البحر أبدوا ملاحظاتهم والتي هي جديرة بأن ينظر فيها المسؤولون لأنها تمس صلب مهنتهم. بدأ الحديث النوخذة إبراهيم أحمد السادة، الذي دخل البحر منذ أن كان في العاشرة من عمره في الستينيات، وقال : إن المرفأ يحتاج إلى تصغير مساحة بوابته وأن تنشأ له بوابة ثانية، لأن المساحة الكبيرة تدخل معها الأمواج وتحطم وتكسر “الطراريد”. وأضاف نقطة أخرى في الشأن نفسه وهي أن الجسر والفواصل التي تقف بينها السفن صغيرة المساحة ومصنوعة من الحديد والبلاستيك وكان الأجدر أن تصنع من الخشب وتغطى بطبقة من المطاط حتى لا تصطدم بها السفن وتؤدي إلى تلفها مع مرور الوقت. أحد كبار بحارة الحد أيضاً، وهو من الهواة المحترفين، النوخذة علي عبدالله بوعلي طالب بالإسراع بإيصال شبكة الماء وملء الخزانات لأهمية الاغتسال بعد الخروج من البحر، لافتاً إلى أهمية الإسراع في جعل خفر السواحل موجودين في المكتب المخصص لهم، والإسراع، كذلك، بإنشاء محطة وقود للسفن. أخطاء الماضي.. وإستراتيجية المستقبل نقلنا ملاحظات الأهالي إلى ممثلي الشعب، ولأن الحد تشهد هذه الأيام انتخابات نيابية لجأنا إلى عضو المنطقة البلدي رمزي البوفلاسة الذي أوضح أن الأخطاء في بعض الشوارع وأرصفتها حدثت في المجلس السابق، كاشفاً عن أن وزارة الأشغال رفضت أكثر من مرة إعادة تأهيل هذه الشوارع نظراً للتكاليف العالية التي ستتكبدها. وبشأن تمديد وقت دوام المركز الصحي وتطوير خدماته طالب البوفلاسة الأهالي بالتحلي بالصبر لأن عمر المركز قصير منذ افتتاحه والوزارة تطوره وتوفر مستلزماته على فترات. وعن أهم المشاريع الجديدة التي ستنفذ قريباً كشف البوفلاسة عن إنشاء حديقة “أم الشجر” ونصب تذكاري عند مدخل الحد بمبلغ 50 ألف دينار. ومن جانبه، كشف رئيس مجلس بلدي المحرق عبد الناصر المحميد عن عزم الوزارة إنشاء كورنيش شمال المرفأ ليكون متنفساً للأهالي. وبشأن ملاحظات صيادي الأسماك وعد المحميد بتقديم الملاحظات كافة إلى المسؤولين في وزارة الإسكان مؤكداً أن الوزارة على استعداد لتحسين الخلل وجوانب القصور لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين. وأضاف أن مشروع المرفأ لم ينته كلياً؛ إذ تطور وزارة البلديات حالياً المرحلة الثانية وتنشئ موقعاً جديداً لـ100 قارب بناءً على الطلبات المتراكمة التي قدمها الصيادون. واتفق رأي مجلس بلدي المحرق مع مطالب أهالي الحد بإيجاد حل جذري لمشكلة تواجد المنشآت الصناعية والمصانع بالقرب من مناطقهم السكنية، مؤكداً أن هذه المشكلة تؤرق جميع سكان المحرق. وطالب المحميد الحكومة بإيجاد مناطق بعيدة عن المناطق السكنية مثل إنشاء جزر بعيدة وأن تنقل إليها مصانع المنطقة الصناعية بالحد ومصانع منطقة المعامير على وفق دراسة علمية ضمن استراتيجية 2030، مؤكداً أن النظر إلى المستقبل بهذه الخطط سيكفل حياة صحية للأهالي خالية من الأمراض السرطانية الخطرة التي راح ضحيتها الكثير من الناس. هذه هي مشكلات الحد وهمومها التقطناها من أفواه أبنائها وعايناها بأنفسنا ونضعها على طاولة المسؤولين ليروا رأيهم فيها إنصافاً ورعاية لمواطنيها.