بقلم - محمّد محمّد الخطّابي: انطلقت في مملكة البحرين، مؤخرا فعاليات المهرجان الشعري السابع» أهل القصيد» بمشاركة كوكبة من الشعراء المجيدين من البحرين، السعودية، الكويت، الإمارات، سلطنة عمان، والأردن، وغيرها إلى هؤلاء الشعراء الأفذاذ، فرسان الكلمة، وأمراء القافية والبيان، وإلى عشّاق الشعر وحلو الكلام ، أهدي هذه الباقة حول صناعة الشعر ومشاغله وأهله وذويه. اللغة في أرقى مظاهرها إن الحديث عن الشعر هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشعر هو اللغة في أرقى مظاهرها، هو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض، وتساؤل واغتراب. هو ضرب من مناوشة الوجود. هو تعبير أفلاطوني، وهوميري، ولبيدي، وزهيري أزلي عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس. هو مخلوق يدبّ على قدمين دائم البحث عن القيم الجديدة. وهو ليس قصراً على التذوّق الفنّي أوالإحساس المرهف أو التسامر أو الانطواء أو الانتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، واستكانة لخباياه وأسراره، واستجلاء لغوامضه ومفارقاته، ومعانقة للآمال والآلام. الشكوى عند الشاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عاتية. الشعر ليس هذراً بل لمح تكفي إشارته، وفكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضرب من المعاناة والنغوص والتوتّر حيناً ، وبالخيال المجنّح والاسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشاعر نغمة حزينة ، تعزفها أوتار القلوب المعذبة المكلومة، والقصيد نبع رقراق يتلألأ مشعّاً في أعماق النفس المحبّة العاشقة الولهانة. يرى الناقد المكسيكي ساندرو كوهين أنّ الشاعر هو مرآة الروح في النفس البشرية. وهو الذي يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر». كان الشعر في القرن الماضي يسمع ويقرأ من طرف العديد من الرجال والنساء، وأعني به الشعر المكتوب، أي الشعر الذي بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أوالتقاليد. وسائل ذات آثار واسعة لم يعرف التاريخ من قبل وسائل ذات آثار واسعة مثلما هو عليه الشأن بالنسبة للمذياع والتلفزيون والسينما ، وأخيراً الإنترنت، إنه منذ بضع عقود كان كل شخص «مهذب» يقدّر مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشعر، ويواظب على حضورها أو قراءتها . وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقق مبيعاتها ما حققه بعض الكتاب والشعراء اليوم. ذلك أن الذي كان يُشترى «بضمّ الياء» منذ مائة سنة كان يقرأ، سواء تعلق الأمر بديوان أو كتاب مطبوع. وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة؛ بل باقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ . ويرى بعض ممّن يتعاطون الشعر أن الموسيقى والراديو والسينما والتلفزيون -حتى وإن كانت هناك بعض المفعولية والمعقولية في أهمّية هذه الوسائل- إلا أنه ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. فلا يمكننا أن ننكر أن هناك موسيقي ممتازة، وهناك أفلام تستحق أن تعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. وهناك كذلك إذاعات جيّدة. كما إنّ هناك تلفازاً متقدّماً ومتطوّراً في جميع أنحاء العالم، بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية. عوامل حجمت قرّاء الشعر هناك العديد من العوامل التي أدّت إلى نقص واضح في قراءة الشعر، وجعلت من الصعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلا أن هناك وجهة نظر بالمقابل لمحايد أو ملاحظ متضرّر وهو الشاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إننا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: «إن العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنه لم يعد هناك مكاناً للشعر» أو : «إنها بكاملها ، طريقة مشيتها، وحديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنما هي قصيدة حقيقية». و»إن التهديد بالحروب والجوع والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقل الشعراء حساسية وشعورا». إلا أن ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزينة والتنميق. فالشعر يفهم عموماً في الغرب بأنه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. وترجع هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلا أنه عندما ظهر أمثال «والت ويتمان» (1819م) و»شارل بودلير»(1821م) و»أستيفان مالارميه»(1842م ) و» أرثور رامبو»(1854م) فإنّ أمثال هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشعر السحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه شيئاً فشيئاً. إن كلمات مثل الأيديولوجية، الالتزام، النقد، التأمل، إعمال النظر، والاستنطاق قد أصبح لها من الانسجام والتوافق والحسن، والجمال الشيء الكثير. كما إن هناك نسبة من الشعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم ودواوينهم، ويتركون آثاراً بالغة في قرّائهم. بل إن بعضهم قد خلّف مدارس واتجاهات شعرية خاصة بهم، وهم بذلك إنما ينثرون بذورا لقلّة وضآلة القرّاء. إن بعض الشعراء الجدد عند هجرهم للاستنطاق بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا يبعدون القرّاء عن ناصية الشعر. ليست بالضرورة مناظر رائعة الأغلبية الساحقة من القرّاء عندما يذهبون إلى الاستماع إلى الشعر يعتقدون أن الجديد سيدور حول مناظر رائعة، وعن كبار رجال التاريخ العالمي، وعن قصص الحب الحالمة، وعن طرق ووسائل الإبداع المبتكرة والمميّزة لشاعر مّا، هذا يحدث عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّى. إلا أن هذا الحكم يتضمّن غير قليل من الإجحاف، لأنه يعتبر القارئ غبياً. وبالفعل فإن غير قليل من الشعراء الغربيين يعتبرون القارئ غبياً لا سبيل إلى إصلاحه، إلا أن ملاحظة «المحايد» الشاعر هو أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الشعراء يعزون سبب فشلهم - من باب الجور والتجنّي- إلى الآخر. ذلك اللاّ مرئي والأقل اجتهاداً وهو القارئ. ويغيب عنهم أنه إذا كان الشعر لا يقرأ الآن كثيراً، فالسّبب ليس في القرّاء أو في الشعر في حدّ ذاته، بل في نوعية الشعر الذي أصبح يكتب اليوم ومدى جودته. فماذا حدث بين أستيفان مالارميه، وجون أسبيري، وبين فيسينسيو كارداريلي، وروبين بونيفاس، وبين ت. س إليوت وأوكتافيو باث؟! ماذا حدث بين الكتاب والشعراء المولودين خلال العقدين الأوّلين من القرن الماضي. إنها مسألة ضآلة الشعر الجيّد. الواقع أن هناك تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، إن فنون القرن العشرين قد تميّزت بالتساؤل المستمر حول ماهية الفن ودوره. إنه بحث دائم عن هويّته، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إننا لا نستطيع أن نستمر في الكتابة طبقاً لاستنطاقات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق والمسؤوليات التي تميّز إنسان العصر. المبدع الحقيقي لا يحيد إن المبدع الحقيقي لا يحيد أبداً عن حاجاته ورغباته وهواجسه وهوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. ذلك أنه كلما ازداد علماً بعالمه المادي كلما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كل ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن الصعب أن نجد الحلول الجاهزة والسريعة والواضحة للشعر. فقد أصبح بعيداً عن الدور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاتيني والعربي بشكل خاص، عندما كانت مواضيع في الطبّ، والتاريخ، والفلسفة، والجغرافيا ، والدّين، والعلوم، والنحو تكتب شعراً. ناهيك عن الوصف والمدح والرثاء والهجاء والحماسة والفخر والغزل والتشبيب. فقد عمل الشعر على امتصاص جميع تلك المواضيع والأغراض التي قد لا تجد لبعضها مكاناً في الشعر اليوم. كما إن الشعر قد فقد إحدى خاصياته الكبرى وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. إن الكوميديا الإلهية « لدانتي « ( المستوحاة كما هو معروف من رسالة الغفران للمعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة منسجمة. كان دانتي يريد أن يقول كل شيء في ملحمته. ومنذ زمن غير بعيد كان « الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس»يعرب عن ارتياحه وانشراحه وغبطته عند عثوره على بيت واحد من الشعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا أو في ديوان شاعر. كانت باكورة أعمال بورخيس الإبداعية تحمل اسم حرف «الألف» العربي تعبيراً عن إعجابه الكبير بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضاد. ومثلما كان يعاب على شاعرنا العربي الكبير أبي تمّام أنّه كان يقول ما لا يفهم ، فكان يجيب ولماذا لا تفهم ما يقال، فإن بعض الشعر اليوم لم يعد يفهم. ثم إنه في نظر البعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وانصرف نحو التجزئة. وكان الشعر الحقيقي يفهم ويقرأ ويستوعب قبل هذا القرن بسهولة ويسر. الشاعر المكسيكي الكبير الراحل أوكتافيو باث كان يقول عن الشعر:» مع كل ذلك لا سبيل إلى الخوف من زواله أو تلاشيه ، وهو سيظل موجوداً ما دام للإنسان وجود في هذه الأرض». ونقول نحن عن جدارة واقتناع إن «الشعر باق بين ظهرانينا، ما دامت تشهد بلداننا مهرجانات شعرية كبرى ناجحة من أمثال مهرجان « أهل القصيد» الذي ما فتئ يصدح بعذب الكلام وحلوه تحت سماء البحرين المحروسة».
970x90
{{ article.article_title }}
970x90