كتبت - رنوة العمصي: كأن الذين ظنوا أن حوائط الفيس بوك ستجرد حوائط الحديد والأسمنت من تاريخها النضالي، كانوا مخطئين! في تونس الحائط يأخذك من يدك، ويروي لك حكاية العام الماضي يقول: الثورة لم تكن هناك على حوائط الفيس بوك المصنوعة من أثير، بل هنا على صدر حوائطي الأسمنتية الباقية. بعد عام تقريباً وبعد انقضاء كل شيء، كنت أتجول في تونس وأقرأ عبارة على أحد الحوائط تقول: «الشعب أراد الحياة»، يبدو أنها كتبت على مهل لأن الذي كتبها كتبها على مساحة كبيرة جداً، لكن بدون اعتناء بجمالها. قد لايكون فناناً، ويبدو من تمهله أنه كتبها بعد انتصار الثورة لا أثناء حكم بن علي ومراقبة الأمن لذلك لم يكن مستعجلاً، كتبها مجيباً نبوءة الشابي، بأن نعم، الشعب أراد الحياة، فاستجاب القدر. مئات العبارات ورسومات الغرافيتي التي غطت حوائط وأعمدة الجسور وواجهات الأبنية، تستطيع بشيء من التأمل، تخمين الفترة الزمنية التي رسمت فيها، بعضها عبارة عن كلمات سريعة، كتبت على عجل وبدون اعتناء بالشكل، كتبت استراقاً خوفاً من عيون الأمن، وبعضها غرافيتي خلّد لحظات انتصار الشعب، مرسوم بتأنٍ وباعتناء مَن أمن مِن خوف. في إحدى جولاتي تلك استوقفني فيها منزل في منطقة قمّرت، على أطراف تونس العاصمة، وهي منطقة جبل أخضر، تطل على البحر، البيوت تبنى على السفح، منطقة جميلة جداً، ويسكنها الميسورون جداً، استوقفني منزل يبدو أنه هجر حديثاً، عندما سألت أخبروني أنه قد يكون أحد أملاك -الطرابلسية- أصهار الرئيس السابق والذين اشتهروا بالفساد وقد هربوا بعد الثورة تاركين خلفهم كثيراً من أملاكهم. المنزل الجميل احتله على ما يبدو فنانو الغرافيتي -وهو فن شارع بالأساس- بعد هروب أصحابه، وقاموا بتحويله إلى معرض لأعمالهم، طلبت من السائق التوقف، وقفزت من السيارة لداخله لأتابع إبداعات فناني الثورة التونسية. فنانو الغرافيتي أو فنانو الشارع تحديداً..! واجهة المنزل، كانت ملآى بعبارات الانتصار بالعربية والفرنسية، ورسم كبير لشاب في وضع ضرب الكرة ضربة خلفية وبدلاً من الكرة، رسم بورتريه للرئيس التونسي السابق، وبشكل جميل كتب أحد الفنانين ثلاث كلمات بالفرنسية هيamour- gloire - beauté أي الحب - المجد - الجمال . المنزل من الداخل حمل في كل زاوية منه حكاية ورسالة وقضية، بعضهم كتب عن تونس ورسم لوحات للنصر وللعلم التونسي، ثمة شعراء أيضاً خطوا أشعارهم على الحوائط ووضعوا إمضاءاتهم أسفلها ، بعضهم صب جام غضبه على كل شيء على الحائط لكنه تأكد من أن يبدو غضبه جميلاً وملوّناً..! أحدهم خط كلمة (السلام) واكتفى، آخر رسم طفلاً أفريقياً يبدو أنه رث الحال، يحمل بعناء فوق رأسه الكرة الأرضية، وكتب إلى جانبه (BUYOR DIE) أي اشتر أو مت، وقد تكون إشارة لقهر الرأسمالية للقارة السمراء، لفتت نظري جداً السيارة التي يبدو أنها محروقة ولم تمر يد الفنان عنها هكذا بل استخدمها أحد الفنانين كمساحة لأعماله.. أخيراً قادتني قدماي إلى عمود رسم عليه صورة مذيع نشرة أخبار وقد بدت عيناه معصوبتين بالأحمر. لم يكن ثمة أحد في المكان أكلمه أو أسأله، لم أجد سوى توقيع بالفرنسية أسفل عدد من الأعمال. دونته وبحثت عنه إذا بهم مجموعة تسمي نفسها أهل الكهف، أسسها تشكيلي تونسي هو إلياس الماجري الذي قال عن اسم المجموعة في تصريح سابق: اسم «أهل الكهف» يتناسب مع ما كنا نود تحقيقه. فقد رأينا بعداً رمزياً في قصة أولئك الرجال التي نجد تفاصيلها في القرآن والذين لجؤوا إلى الكهف هروباً من الطغيان فأدخلهم الله في سبات دام أكثر من 300 سنة. كنا بدورنا نبحث عن فن لا يذوب في الثقافة الاجتماعية السائدة ويأخذ مسافته منها تماماً كما انعزل أهل الكهف عن مجتمعهم ليعيشوا تجربة زمنية مغايرة. اعترف عدد من فناني الغرافيتي في تونس بأنهم في ظل انضباط الأمن، لا يكون في وسعهم اختراق القانون بالرسم على الحوائط، وبأنهم يستغلون أي لحظة مظاهرة وفوضى لانشغال الأمن بالمتظاهرين، لإنجاز أعمالهم. هذه المطاردة اللطيفة بين الأمن وفناني الغرافيتي هي أمر متعارف عليه عالمياً، لكن يحسب لتونس أنها خصصت مساحات بالفعل بعد الثورة، لفناني الغرافيتي ليعبروا عليها ما شاؤوا عسى يكون ذلك كافياً، لكن المساحات المخصصة نفدت، وعاد الوضع لما كان عليه، سلطة تريد النظام، وفنان يريد التمرد..!