كتب – جعفر الديري:

الحياة قبل سبعين عاما وأكثر، غيرها اليوم. لقد كانت شاقة، وإنسانها يبذل من طاقته وجهده الكثير، لكي يؤمّن لقمة العيش له ولأبنائه. حتى إذا أقبل شهر رمضان، ضاعف من التعب والجهد. فالأهالي كانوا يزاولون أعمالهم منذ الصباح وحتى المساء، وسط طقس حار رطب، حتى انهم كانوا متى شاهدوا جدول ماء في سبيلهم، وضعوا الماء البارد على صدورهم لكي يطفئوا شيئاً من العطش الذي ينهش أفئدتهم.

قبل العاشرة

ذلك ما يذكره الحاج علي بن حسين، من محافظة المحرق، الرجل الذي ناهز السبعين عاماً، والذي تدرب على الصيام منذ نعومة أظفاره، على يد أبيه، الشديد في فرائضه والكبير في رحمته وأخلاقه. يقول الحاج علي: كان آباؤنا يعودوننا على الصيام منذ سني عمرنا الأولى، منذ العاشرة وما قبلها. لكننا كنا نفطر أحياناً، ليس إفطار المستهزأ، بسبب حرقة الجوع والعطش، ونتيجة للأعمال الشاقة التي كنا نقوم بها. نفطر على خلالة صغيرة “الرطبة التي لم تنضج بعد”، أو نشرب الماء بكف أيدينا الصغيرة. ويضيف الحاج: كانت أعمالنا شاقة فعلاً. فكنت رغم صغري أعمل في أي وظيفة توكل إلي طالما إنها شريفة. لكن مع تقدمي من مرحلة الشباب وارتباطي بالزواج أصبحت المسؤولية مضاعفة، فكنت أعمل أعمالاً شديدة؛ كنت أقطع الطريق إلى العمل مشياً على الأقدام وأحياناً إلى الحوض الجاف والحالة وفريق بن علي لجمع “الخمق” للنوخذة الذي يمنحني النزر اليسير من المال، وكنت أحمل أكياس “الخمق” على ظهوري طوال الطريق. عملت أيضا مع بنّاء.

الشقاء ليلاً ونهاراً

حياة صعبة للغاية قاساها الحاج علي. كانت تبدأ منذ آذان الفجر ولا تنتهي إلا مع غروب الشمس. حياة لم تكن تمنح أصحابها المقدار اليسير من الراحة. شقاء طوال اليوم، يتبعه شقاء يوم آخر. يزيد حدّة مع اقتراب الشهر الفضيل “كنا نعود من العمل فلا نجد على مائدة الإفطار في أفضل حال سوى الماء والرز باللبن والسمك، وأحياناً الحلاوة وهي التمر. أما في أغلب الأحيان لم يكن هناك الجريش والعصيدة والبلاليط الذي كان يدعى وقتها بالشعيرية. حتى الماء كنا نتكلف من أجله ونجلبه من “الكواكب” المعروفة بمنابع الماء، حين كان هناك ثلاثة كواكب”.

أما في الليل، فإن الحياة لا تختلف في شدتها عن النهار. كان الحاج علي يعود إلى البيت مرهقاً بعد العمل. فلا يجد مكاناً بارداً بفعل هواء المكيف. حتى مائدة الإفطار، كانت تخلو من أطباق اليوم، فلا طعام شهي ولا شراب نظيف. يزدرد لقيماته، ويشرب اللبن إن توافر، ليخرج إلى بيوت النواخذة مستمعاً للقرآن. فوحدها بيوت النواخذة كانت تقرأ القرآن، فحتى المآتم، لم تفتح وقتها الباب إلى ذلك.

تلاوة القرآن

لا ينفي الحاج علي مسؤوليته، فقد أخطأ حين لم يتعلم قراءة القرآن، وهي غصّة لا يزال يعانيها. لكن الله تعالى عوضه بأبناء وبنات، يقرؤون القرآن الكريم. “أعترف بصدق أنني لم أعنى بتعلم قراءة القرآن. لقد حاولت تعلم القرآن في صغري حين أرسلت إلى المعلم، فتعلمت علي يديه بعض الأجزاء، لكنني لم ألبث معه طويلا. إذ لم يكن المعلم وقتها كما هو عليه الآن، كان شديداً لا يعرف سوى الضرب والصراخ، ولم أكن لأصبر على هذا الوضع فتركته”.