تحقيق ـ حسين التتان:
(هناك من المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب شبه عالية وهم من شريحة كبار السن، فيخرجون للتقاعد، ومن ثم يتم توظيفهم من جديد، ليس في الشركات الخاصة، بل في بعض الوزارات الحكومية، وأنا أرى أن الأهم أولى من المهم، ففي الجهة الأخرى يوجد في الوطن شباب يافع ينظر إلى المستقبل من خلال حلم الحصول على وظيفة، بينما هو قابع في المنزل، عالة على والديه الفقيرين، أو يعيش على نفقة المجتمع، كما هو حال أبنائي”.
بهذه الكلمات المعبرة والعفوية البسيطة، يعبر المواطن المحرقي الستيني محمود محمد الياسي، عن يأسه ومعاناته فيما يتعلق بحصول أبنائه على وظيفة لائقة، بسبب إعادة قسم لا بأس به من الموظفين إلى أعمالهم بعد إحالتهم للتقاعد، كخبراء ومستشارين، وبرواتب خرافية تستنزف خزينة الدولة في بعض من المؤسسات الحكومية، بينما هناك من أبناء الوطن، من شريحة المتعلمين والخريجين من ينتظر دوره للحصول على وظيفة، ولو براتب زهيد!!.
ويعرض الياسي حاله، ويقول: “لدي اليوم اثنين من الأبناء، وصل أحدهما إلى سن الثلاثين عاماً تقريباً، وهو من دون وظيفة، أما شقيقه الآخر فهو يصغره ولا يعمل كذلك، بينما أنا متقاعد براتب 220 ديناراً، فهل لكم أن تتخيلوا كيف تكون الرفاهية والعيش الكريم؟).
ما طرحه الياسي قادنا إلى أسئلة كثيرة منها: كيف يوظّف المتقاعد من جديد وبراتب أعلى؟ وكيف سيعمل أبناء البحرين إذا لم يعط هؤلاء المتقاعدون فرصة لأبنائهم للعمل في مؤسسات الدولة؟ هل هو التحايل على القانون؟ أم أن القانون يجيز ذلك؟ هل أصبحت الحاجة للمتقاعدين ضرورة ولو من باب اكتساب الخبرات وكونهم مستشارين؟ وأين دور الرقابة على هذه العملية؟.
بين جيلين
الشاب المواطن علي بحر يتحدث لنا عن توظيف المتقاعدين ليعطينا رأيه من الأخير قائلاً: المفروض أن لا يتم توظيف المتقاعدين أبداً، ولو كان تحت أية ذريعة، لأن شباب البحرين اليوم، وحسب ما أراه، يملكون من الخبرات الحديثة ما لا يملكه جميع المتقاعدين، فشهاداتهم من جامعات متخصصة ولديهم دراسات عليا في جميع التخصصات، كما أن الشاب يمتلك من الحماسة للعطاء والعمل والإبداع ما لا يملكه أي متقاعد، ناهيك عن أن شبابنا البحريني، يحمل من عقلية التطوير الشيء الكثير، كما أن لديه إلماماً واسعاً بعلوم الإدارات الحديثة، على العكس من المتقاعد الذي لا يملك إلا عقلية إدارية عفا عليها الزمن، لا تتناسب وطبيعة العمل الإداري الحديث.
ويعتقد بحر أن توظيف المتقاعد سيمنع دخول الدماء الجديدة إلى سوق العمل وإلى مؤسسات الدولة كافة، للإسهام والمشاركة في بناء الوطن الذي يعيشون فيه. أما عن أهمية وجود بعض الخبرات في مؤسسات الدولة، فيقول بحر: نحن بطبيعة الحال نحترم الخبرات، لكن شريطة أن تُعطي ما لديها من خبرات في وقتها لا حين تخرج من عملها، فإذا كان المدير أو الوكيل خبيراً في مجال عمله، فعليه أن يظهر هذه الإمكانيات والخيرات قبل التقاعد، بأن يدرب من هم تحته من الشباب، وإعدادهم بنحو جيد قبل إحالته إلى التقاعد، أما أن يتقاعد ومن ثم يعود إلى العمل من جديد كمستشار بصفة تحايلية، ومن أجل استنزاف خزانة الدولة، فهذا فساد إداري واضح.
أسئلة مشروعة
في ظل هذه الجدلية القائمة بين عودة المتقاعد إلى عمله مستشاراً، وبين مواصلة الشباب نضالهم للحصول على وظيفة، التقينا الشاب محمد النشابة ليحدثنا عن رأيه، وأين يقع بين هذه الإشكاليات، خصوصاً أنه على وشك التخرج في الجامعة.
يقول النشابة: من الطبيعي أننا نتحفظ على عملية توظيف المتقاعدين بالكامل، بل أننا نعدّها عملية غير قانونية وربما غير أخلاقية، خصوصاً إذا جاءت عبر التحايل وخرق القوانين.
حجة النشابة أن عملية توظيف الموظف المتقاعد، تفوت الفرصة على الشباب في الحصول على وظيفة جيدة تناسب مؤهلاتهم العلمية، وهذه العملية تحدث ليس في مؤسسات الدولة وحسب، بل في جميع المؤسسات الخاصة كذلك، وهذا ربما يكون سبباً رئيساً في إرساء مفاهيم البطالة عن العمل في البحرين.
ويتساءل النشابة: في كل مرة تُجدد الدولة لهؤلاء المتقاعدين عقودهم وبرواتب مغرية، فمتى ستوظفنا هي أو القطاع الخاص؟ وهل سأل النواب الحكومة عن توظيف المتقاعد مرة أخرى؟ وكيف تتم العملية؟ هل حاسبوا الجهة المسؤولة عن توظيفهم وما هي المعايير الصحيحة لهذه العملية؟ هل أعطانا النواب كشفناً بالتكلفة المالية لعملية إعادة المتقاعد إلى عمله، خصوصاً حين يكون مديراً أو وكيل وزارة؟.
يتمنى النشابة أن لا تقع العملية كلها في خانة الفساد الإداري والمالي، لأنها لو كانت كذلك، فحينها تجب محاسبة كل من تسبب في هذا الفساد.
الحاج ابراهيم أحمد وهو متقاعد يحدثنا عن هذه الإشكالية قائلاً: لا شك أن عملية إعادة توظيف المتقاعد في عمله أو تعيينه مستشاراً، أمر غير محبب إلا في حالات ضيقة وخاصة جداً، كأن يكون هذا المتقاعد من أصحاب الخبرات التي لا يملكها الشباب، أو أن تخصصه نادر وغير متوافر في قطاع الخريجين، وأن يكون توظيفهم تحت إشراف جهات مختصة، والتأكد من حاجة المؤسسة إليهم، حتى لا تكون العملية (سائبة)، أما إذا لم تتوفر هذه المقومات والشروط، فإن إعادة أي موظف إلى عمله بعد تقاعده، أمر مشين، إذا لم تكن المؤسسة تحتاج إليه، كما يجب أن تتم العملية في نطاق ضيق جداً، وفي حدود الحاجة فقط.
عقود قصيرة الأجل
توجهنا ناحية النواب لمعرفة موقفهم من هذه الإشكالية، فالتقينا النائب عثمان شريف الريس، ليحدثنا عن فك طلسم هذه المشكلة التي تؤرق الآباء قبل الأبناء، مع إبداء الرأي القانوني وطرحه لبعض المقترحات كحل لهذه المسألة.
يقول الريس: عايشت هذه القضية بكل وضوح، من خلال عضويتي لهيئة التأمين الاجتماعي، ولهذا أعتقد أن إعادة توظيف الأشخاص المتقاعدين من أصحاب الخبرات الوطنية، من الذين أُحيلوا على التقاعد حسب السِّن القانوني، يجب أن تتم من خلال عقود مؤقتة وبصفة ضيقة للغاية، وتحت مسمى مدربين، بمعنى، أن يدربوا الموظفين المستجدين، وأن لا تتجاوز مدة عقودهم الـ6 أشهر لا غير.
ويضيف: إن بقاء هذه الخبرات ولمدد طويلة وبرواتب كبيرة، سيستنزف المال العام، إضافة أنهم سيفوتون الفرصة على الكفاءات الوطنية الشابة، والتي لن تحصل على فرصتها الحقيقية في التوظيف، خصوصاً حين تكون عقود تلك الخبرات طويلة الأمد أو تكون مفتوحة بلا قيد زمني.
ويقترح الريس، في هذا الإطار، أن لا تحيل المؤسسة الحكومية موظفيها من أصحاب الخبرة التي تحتاجها، إلى التقاعد مباشرة، بل يجب أن يبقى في عمله حتى يوجد البديل، أو يدرب هو من هم تحته ليؤهلهم للمنصب، لكي لا تتحمل المؤسسات الرسمية أعباء مالية إضافية، ومن أجل المحافظة على المال العام للدولة، وإفساح المجال للكفاءات البحرينية الشابة من جهة أخرى.
أخرجوهم إلى التقاعد المبكر
النائب خالد المالود يحاول أن يوازن بين أهمية إعادة الخبرات إلى الوظيفة وبين عدم تفويت الفرصة على الشباب البحريني، بل يؤكد أمراً آخر، وهو عدم إبقاء الموظف مدداً زمنية طويلة على كرسي الوظيفة، خصوصاً إذا لم يكن من المنتجين، فيعطى هؤلاء تقاعداً مبكراً.
يقول المالود: إذا كان الشخص المحال إلى التقاعد من ذوي الخبرات والكفاءات الخاصة، ولديه رصيد كبير من الخبرة العملية، حينها لا بأس أن يعاد للعمل لكن وفق شروط وضوابط، لكن حين يكون متقاعداً، فتحتال المؤسسة الرسمية التي يعمل فيها من أجل أن يتقاعد ومن ثم يعود بالامتيازات نفسها ويحصل على راتب كبير إضافة إلى راتبه التقاعدي، فهذا فساد واضح. صحيح أننا ربما نحتاج إلى خبراء ولكن إذا لم تكن هناك حاجة ماسة لهم، فحينها يعد إرجاعهم أمراً غير قانوني.
ويقترح المالود أن تكون هناك هيئة وطنية للتوظيف، مهمتها عملية تنظيم ومراقبة إعادة المتقاعدين من المدراء والوكلاء إلى وظائفهم كمستشارين.
أما فيما يخص حاجة الدولة للخبراء وإشكالية تفويت الفرصة على الشباب للعمل في مؤسسات الدولة فيقول المالود: نحن نحترم شباب الوطن من أصحاب الشهادات العلمية، لكن هذا لا يعني أن لدى هؤلاء الشباب الخبرة الكافية لتسيير العمل بصفة تنم عن خبرة ودراية، فالواقع يثبت أحياناً أن الخبرة تكون مهمة للغاية في بعض الوظائف، كمهنة التطبيب وغيرها من الوظائف التي كلما مر عليها الزمن زادت صاحبها خبرة.
ويرى المالود أن حاجتنا للمستشار تكون في الغالب لأعمال استشارية بسيطة، ربما لا تستحق أن تخصص وظائف لها وبرواتب عالية وبعقود طويلة، ويقول: ليست هذه المشكلة الكبيرة، بل المشكلة في إبقاء الموظف الذي خدم أكثر من ثلاثين عاماً وهو برتبة مدير أو وكيل، وهو لا يملك شهادات أو رصيداً علمياً وعملياً مرموقاً، بينما تعطيه الدولة راتباً يفوق ما يقدمه للوطن، وفي هذه الحالة نحن نطالب أن يُحال هؤلاء إلى التقاعد المبكر، كي نفسح المجال للدماء الجديدة من شبابنا، ولكي نوقف هدر المال العام على وظائف وموظفين لا ينتجون شيئا، أما في حال تم استدعاء المتقاعد إلى العمل من جديد، وهو الشخص الذي لم يُعط نتاجاً في فترة عمله، فهذا عين الفساد، لأن من لم ينتج وهو في الوظيفة، فإنه لن يُنتج وهو مستشار.
الرأي الأخير
أخيراً وبعد أن لملمنا هذه المشكلة وأحطنا بها علماً، ينبغي لنا الآن أن نتوجه إلى الجهة المختصة بتعيين هؤلاء المديرين مستشارين بعد تقاعدهم، ومعرفة الوضع القانوني لحركة استرجاعهم.
أوضحنا الأمر لرئيس ديوان الخدمة المدنية أحمد الزايد، وكيفية وقوع هذا الإشكال بين القانون والواقع، فأجابنا: إن كل ما ذكرتموه في الحقيقة يعتمد على الوصف الوظيفي للمتقاعد وعلى قدر حاجة العمل ومستوى الإنتاجية للمؤسسة التي ترغب باستعادة متقاعدها، وعلى إثر ذلك يتم تعيينه مستشاراً لا غير، وليس مديراً أو وكيلاً كما كان منصبه قبل التقاعد، أو كما يعتقد بعضهم.
إذاً كيف يتم توظيف المتقاعد، إذ لا يكون ذلك إلا عبر ديوان الخدمة المدنية؟
يجيب الزايد قائلاً: نحن لا نقبل بتوظيف المتقاعد كمستشار، إلا إذا وصلتنا مجموعة من المسوغات المقنعة من الجهة الراغبة في الحصول على خدمات المتقاعد، فندرسها ومن ثم نقرر إذا ما كان الأمر يستحق ذلك أم لا، هذا في حال كون الوظيفة استشارية ومؤقتة، إما في حال كون الوظيفة الشاغرة دائمة وأرادت الجهة الحكومية الإستفادة من الشخص المتقاعد، فحينئذ يكون القرار بيد مجلس الوزراء فقط، فهي الجهة المخولة بالموافقة على أن يجمع الموظف بين راتبين، راتب التقاعد وراتب الوظيفة الحالية التي سيشغلها بعد التقاعد. أما في حال حال كونه مستشاراً مؤقتاً، أي بدوام جزئي، فهنا بطبيعة الحال يخضع لقوانين ديوان الخدمة المدنية، من حيث الراتب وسلم الرتب الوظيفية وما شاكل.
يختم الزايد حديثه قائلا: لا يجب أن يعتقد بعض الناس أن كل متقاعد، هو شخص لا يمكن الاستفادة منه، لأنه أصبح متقدماً في العمر، بل على العكس من ذلك، فهناك بعض الوظائف المهنية لا يمكن أن نستغني عنهم بسهولة، كالأطباء مثلاً، فهذه الشريحة إذا أحيلت إلى التقاعد فإن خسارة المجتمع ستكون كبيرة، وذلك حين يفقد هذه الشريحة من الكفاءات المهنية المهمة، خصوصاً حين يكون بحرينياً.
كل ما قيل، سواء كان يتناسق وطبيعة القانون البحريني للتوظيف، أو أنه مجرد اقتراح عابر، سيظل الجدل قائماً بين من يريد أن يتقاعد من العمل ومن ثم يعود إليه براتبين اثنين، وبين شاب يحمل من الكفاءات والشهادات، ما تسمح له مؤهلاته أن يتوظف حالاً، ولهذا لابد من إنشاء هيئة مستقلة بتعاون مع أفراد السلطة التشريعية لتنظيم ومرافبة هذا الوضع بصورة دقيقة، حتى لا يكون الأمر سائباً، فتدخل فيه الكثير من المحسوبيات والكثير من أنواع الفساد الإداري والمالي، فهل سيتحفنا النواب بمثل هذه المشاريع التي تؤمِّن وظائف للأجيال والاستفادة من خبرات الأباء، من دون أن نبخس أحد حقه؟