^   ليس هناك من لا يشجب عملية الهجوم على المعهد اليهودي في تولوز في 19 مارس 2012، والذي كان ضحيته أربعة قتلى، هم أستاذ دين يهودي وثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و10 أعوام. فعملية إطلاق النار، التي نفذها، كما تقول دوائر الأمن الفرنسية “مسلح لاذ بالفرار على متن دراجة نارية بعد الهجوم”، هي جريمة ضد الإنسانية لا يبررها، ولا يمكن أن تبيحها أية أهداف سياسية. من الطبيعي أن تتحول الحادثة إلى إحدى أدوات الصراعات الانتخابية للرئاسة الفرنسية، وهو أمر لمسناه في تصريحات القوى السياسية المتنافسة، فبينما اعتبرت مرشحة الرئاسة الفرنسية اليمينية المتشددة من الجبهة الوطنية مارين لوبان “أن سفاحاً هو وراء عمليات القتل، والبلاد كلها تنتظر بفارغ الصبر العثور على هذا السفاح حتى نستطيع جميعاً أن نتنفس الصعداء”، حاولت صحيفة “لومانيتيه” اليسارية، تفسير أسباب حادث إطلاق النيران من منظار أكثر موضوعية، فيأتي العنوان الرئيس المتصدر صفحتها الأولى قائلاً “قاتل عنصري”. بالقدر ذاته وجدنا صحيفة “لوموند” المعبرة عن تيار الوسط تحاول أن تتناول المسألة من زاوية أكثر موضوعية، رابطة بين الحادث واحتمالات تطور الأوضاع السياسية الفرنسية، قائلة إن “التبعات السياسية للمأساة التي شهدتها مدينة تولوز ربما تختلف بشكل كبير اعتماداً على ما إذا كان القاتل من اليمين المتطرف أم جهادي أم مجرد شخص مجنون”. ردة الفعل الخارجية الصارخة أتت من تل أبيب، التي بعد أن نددت بالهجوم، وصفت، كما جاء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهجوم “بأنه عملية قتل حقيرة ليهود، من بينهم أطفال، مضيفاً، أنه من المبكر معرفة الخلفية وراء هذا الهجوم، ولكنه لم يستبعد أن يكون الدافع وراءه معاداة السامية”. وفي ردة الفعل هذه الكثير من الدلالات السياسية التي ينبغي قراءتها بعناية فائقة، لأنها تتجاوز في معانيها، ومن ثم آفاقها ونواياها نطاق حصر الجريمة في مجرد اعتداء نفذه شخص، أو حتى متطلبات الساحة السياسية الفرنسية. يعيد حادث معهد تولوز، وردود الفعل الإسرائيلية، والأوضاع القائمة اليوم في الشرق الأوسط، إلى الأذهان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، عندما استفاق العالم صبيحة 4/6/1982، كي يتلقى، “باندهاش”، خبر بدء قصف “ الطائرات الحربية الإسرائيلية مواقع ومناطق مختلفة من لبنان قصفاً كثيفاً، زاعمة أنّ هذه الأعمال العدوانية هي ردود فعل انتقامية لحادثة اغتيال سفير إسرائيل شلومو آرغون في لندن”. أطلقت إسرائيل على العملية اسم “عملية سلامة الجليل”. اكتشف العالم بعد أكثر من عام أن تلك العملية، كما يدل اسمها، كان قد أعد لها بشكل مسبق، بل وحازت على موافقة ومباركة الولايات المتحدة. إذ لم يكن لتل أبيب أن تمتلك الجرأة على شن تلك الحرب، وبذلك المستوى، لو لم يقدم لها الرئيس الأمريكي وقتها رونالد ريغان الغطاء السياسي الدولي الذي تحتاجه “لتدمير منظمة التحرير، بتوغلها مسافة لا تتجاوز 30 كيلومتراً لتحقيق أمنها والدفاع عن نفسها”. وكشف وزير الخارجية الأمريكية حينها ألكسندر هيغ، في مقالة نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي على غزو لبنان قائلاً “إننا نفهم أهدافكم (إسرائيل) ولا نستطيع أن نقول لكم لا تدافعوا عن مصالحكم”. وليس هناك ما هو أكثر دلالة على أن الحرب لم تكن المتتبعات التي تولدت عنها، حيث بقيت القوات الإسرائيلية في لبنان، حتى بعد إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان فقي أغسطس 1982، إلى العام 2003. القصد من وراء هذا السرد، هو أن تل أبيب كانت قد أعدت نفسها لحرب شاملة ضد لبنان، وتحينت الفرصة المناسبة لتنفيذها، واستفادت من حادث الاغتيال كي تسارع إلى نقلها إلى حيز الواقع، مستفيدة من قضية أساسية واحدة هي الأوضاع الملائمة التي كانت تسود منطقة الشرق الأوسط حينها، وفي المقدمة منها الضعف العربي الذي أفرزه توقيع مصر اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل. أوضاع الشرق الأوسط اليوم فيها الكثير من أوجه الشبه مع تلك التي كانت قائمة في تلك الفترة، والأكثر أهمية فيها هو التمزق العربي الذي ولدته الأحداث الأخيرة التي عرفت باسم “الربيع العربي”. ليس المقصود هنا الوقوع في فخ “نظرية المؤامرة”، والخروج باستنتاج أن كل ما جرى عربياً، إنما هو من صنع تل أبيب، أو حتى واشنطن، فما عرفته المنطقة العربية هو نتاج طبيعي للأوضاع الذاتية الخاصة بها. لكن ذلك لا يمنع أيضاً من أن تستفيد منه قوى معادية للعرب مثل إسرائيل، التي تتحين الفرص التي يضعف فيها الطرف العربي، فتوجه له ضربة قاصمة، تتبعها بدعوة لتوقيع اتفاقية، تكسب الوجود الصهيوني المزيد من “الشرعية”، على حساب الحقوق العربية المشروعة. فإسرائيل اليوم، تفتش عن أكثر من سبب يتيح لها توجيه ضربة إلى أي اتفاق فلسطيني، كما هو حاصل بين حركة “حماس” والسلطة الفلسطينية، مهما كانت هشاشته، فهو، في نهاية الأمر، لا يصب في صالح موازين الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. كما إن هناك إيران التي لا تريد لها إسرائيل أن تحرز أي تقدم على صعيد تطوير قدراتها النووية من جانب، وتعمل على إبعادها عن الجبهة السورية من جانب آخر. وعلى هامش ذلك، هناك الدول الخليجية، الممسكة بورقة النفط والاعتدال السياسي، وتخشى إسرائيل من تحسن علاقات تلك الدول بواشنطن. إذا جمعنا كل تلك الظروف، كي نعيد رسم صورة الشرق الأوسط الجديد الذي تحاول تل أبيب، وواشنطن إعادة تركيبها، بما يخدم مصالحهما المشتركة، فلربما نخشى من أن تجير إسرائيل حادث المعهد الديني اليهودي في تولوز، كما استفادت من محاولة اغتيال “غروف” في لندن، كي تشن هجوماً خاطفاً مدروساً، ينفذ أهدافها، دون أن يورطها في حرب استنزاف طويلة الأمد، ليست مهيأة لها. فهل تقرع رصاصات تولوز طبول الحرب في الشرق الأوسط؟