كتب - علي الشرقاوي: منطقة التيل إحدى المناطق التي شهدت أحداثا تاريخية كثيرة، أثرت على الأهالي المحيطين بها من أهالي الحورة؛ حورة الحدادة، فريج البلوش، العدامة، بيوت العمال على شارع الزبارة، بالإضافة إلى أهالي القضيبية، الذين اعتبروا كل من سكن محيطاً بمنطقة التيل، هو من أهلها. حيث امتدت أمامها من جهة البحر منطقة كبيرة من “العشيش” وبيوت السعف، نتيجة دفان مخلفات كل مدن وقرى البحرين وشركة النفط، سميت سخرية منطقة لبنان. تاريخ التيل تذكر الدراسات التاريخية أن تاريخ أول رابط اتصالات للبحرين ببقية دول العالم يعود إلى 1864م عندما تم ربط الجزيرة بكابل التلغراف الهندي- الأوروبي المغمور تحت سطح البحر. وبقي هذا الرابط وسيلة الاتصالات الوحيدة حتى 1931م عندما بدأت الشركات التي جاءت قبل شركة البرق السلكي واللاسلكي بتشغيل روابط راديو التي وفرت خدمات التليغراف “البرقية” والهاتف. وخلال الثلاثينيات، قامت وحدة الكهرباء بتشغيل أول بدالة بالبلاد يبلغ عدد موظفيها 15 موظفاً، وسيارتين و39 خطاً فاعلاً. وقد افتتح أول مكتب تليغراف العام 1947م، أعقبه بوقت قصير تركيب أول بدالة هاتف أوتوماتيكية في العام 1949م. وكانت الشركة تعرف في ذلك الوقت باسم Imperial and International Communications Company، ليتم دمجها فيما بعد ضمن شركة البرق السلكي و اللاسلكي “كيبل ويلس” كما تنطق بالعامية في بداية العام 1949م. الحورة قبل التيل كان البحر في الحورة أو حالة بن أنس أو كزكز، قبل مرحلة التيل، يحاذي حالة بن سوار. وكانت سفنه ترسو قريباً من “الفريج” . ولأن بناء التيل جاء قبل ولادتنا، شاهدنا التيل في أواخر أيامه، خصوصاً بعد أن انتقلت الإذاعة إلى منطقة العدلية أو بما كنا نسميه الريس (مضمار سباق الخيول) في الخمسينيات. وتعاملنا مع بقاياه الأرض المستوية، بعد أن تحول جزء منه إلى نادي بتلكو، وجزء آخر إلى مدرسة الحورة الإعدادية للبنات. وبينهما ممر صغير، هو طريقنا الدائم من الحورة إلى السوق. بالإضافة إلى تحويل شرق التيل، إلى ساحة لكرة القدم. ساحتنا الأولى الساحة الأولى أو الملعب الذي كنا نمارس فيه كرة القدم، كانت تقع خلف بيتنا وبيت عمتي زوجة راشد تقي. وبيت عبدالقادر صالح تقي. ويطل عليها بيت غلوم شرفي والد حسين ويوسف شرفي. بالإضافة إلى الجدران الخلفية لبيت راشد بن جبر الدوسري. وأذكر من لاعبي تلك الفترة كل من يوسف محمد بوشقر وديمي (عبدالرحيم السيد) ومحمد الحلواجي وبدر بوشقر، بالإضافة إلى بوكوات ( محمد حسن الكويتي) أو بوشقر، الأخ الأكبر للاعب فؤاد بوشقر، وعبدالله حيدر، ولاعبين آخرين في مثل عمرنا. ورغم أن الساحة متربة نتيجة عدم تسوية الأرضية، إلا أنها كانت مؤقتة، فما أن تمكنا من فتح الحواجز الحديدية وكسرها والدخول من الأرض المستوية شرق التيل، حتى تحولت إلى ملعب جاهز نمارس عليه لعب الكرة ، بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب . «التيل» و«الماو» بعد أن هجرنا منطقة التيل ، بقت هناك كثير من المعدات غير الصالحة للاستعمال من قبل المسؤولين، لكن نظرية ما لا يصلح لغيرك يصلح لك وجدت لها مكاناً مناسباً بالنسبة لنا نحن الفتيان الداخلين إلى مرحلة المراهقة، ولا نملك ما نشتري به احتياجاتنا اليومية، من سندويتشات و«نخي” و«باجله” وتدخين أيضاً. وقد وجدنا في التيل مجالاً جيداً للاستفادة من البقايا التي تصلح للبيع، ومنها “الماو” (النحاس) وهو مطلوب في سوق “المقاصيص” أو عند الدكاكين التي تتعامل في بيع وشراء “الماو” أو “زري عتيج” الذي يغرينا دائماً بالحصول على مبلغ ضئيل، مقارنة بما يمكن أن يحصل عليه. لذلك كنا نجمع ما نحصل عليه من “ماو” ونذهب إلى السوق لبيعه بأسعار زهيدة، هي بالنسبة لنا مبالغ لا يستهان بها. لأننا من خلالها نستطيع مشاهدة فيلم هندي والعشاء في مطعم أحمد شاه. درس الأستاذ «شوط» الكهرباء الحياة كما يقولون هي مجموعة دروس نتعلمها من الأخطاء التي نقع فيها، بعضنا يستوعب الدرس جيداً فلا يقع فيها، والبعض الأخر، يواصل الأخطاء نفسها ولا يتعلم. وهذا ما حصل لي شخصياً مع الأستاذ “شوط” الكهرباء الذي تعلمت منه ما لم أتعلمه في المدرسة. كنا نلعب في ساحة التيل، القريبة من دكان عزيز، وهو أشهر دكان في تلك الفترة، جزء من الساحة كان يقابل بيت حماده. وهناك مجموعة من البيوت القريبة من ساحة التيل، وأهمها بيت مسعودة، المرأة اليهودية التي أسلمت وأصبحت مثال المرأة المؤمنة الصالحة التي تحب الخير لكل الناس. قلت: إن الساحة شبه مهيأة للعب، فأرضها مستوية وهناك بعض المناطق التي نمت فيها الحشائش، مما يجعلها صالحة للجلوس والشقلبة، ونحن نمارس لعبة الجمباز . ساحة التيل منتصف الستينيات عندما يأتي أي واحد من “ الصبيان “ إلى الساحة ، كان من الممكن أن يدخل اللعب من دون استئذان. يكفي أن تطلب من الحكم حتى يسمح لك، خصوصاً إذا كان هناك ثمة نقص في اللاعبين، لأنه لا يوجد أي التزام بالوقت. من هنا يستطيع الواحد أن يدخل الملعب و يقف في المكان الخالي أو الشاغر . ولا ضرورة لأن يرتدي ملابس اللعب. إن كان يرتدي حذاءً لا يصلح للملعب، ما عليه إلا أن يخلعه ويلعب حافي القدمين. إن الفرق العادية في ساحة التيل، كانت جميعها خارج إطار فرق كرة القدم المعروفة في تلك الفترة؛ فريق الوحدة أو العربي، فريق التاج، فريق الوطن أو النادي الوطني التابع لشباب حورة الحدادة. يكفي أن نكوّن فريقين متنافسين لنمارس اللعب في أي مكان، دون الاهتمام بملابس اللعب. ومن المعروف أن أكثرنا وأنا واحد منهم، حينما يلعب حافي القدمين، يكون أكثر قدرة على الجري والمناورة، لكنه أيضاً أكثر عرضة للكبس، أو الدهس على قدميه. لكننا كنا نعتبر أن الدوس على قدم اللاعب المنافس جزءً من اللعبة. وأتذكر في مارس العام 1965م أن المظاهرات كانت مشتعلة، تطالب بإعادة العمل المفصولين من شركة بابكو. وبالطبع كان أغلب الآباء عمالاً. وقد طالبنا بإعادة آبائنا إلى أعمالهم أو أننا سنموت جوعاً. هناك في الساحة، شاهدت “الماو” (النحاس) يلمع في حفرة صغيرة. كأنه يناديني ويدعوني لقطعه من الأرض وأخذه إلى السوق. وما أن مددت يدي وأنا أمني النفس بهذا الصيد الثمين، حتى نفض يدي تيار كهربائي رماني بعيداً. وحمدت الله تعالى أنه لم يحرقني، وأنه لم يكن هناك أحد من الأصدقاء يراني. وعرفت فيما بعد أنهم لم يقطعوا التيار الكهربائي عن هذا الكابل. ودعوت الأصدقاء الذين يلعبون معي إلى ردمه وملئه بالأحجار والرمل، من أجل أن لا يغري أحداً آخر، فيورده مورد الهلاك. حين كسرت يدي لا أتذكر بالضبط كيف كسرت يدي؟! ربما نتيجة لسقوطي على يدي وأنا ألعب كرة القدم، أو الجمباز. ولأن البحرين كانت تمر بأحداث غير عادية وسيارات الأمن تجوب الشوارع. أوقفني جيب “سيارة “ الشرطة، وسألني الشرطي عن كسر يدي، ولم يقتنع حين أخبرته أنها كسرت بسبب سقوطي على الأرض، وتصور أني أصبت في تلك الأحداث. ورغم أني شاركت في المظاهرات في المدرسة الثانوية، مثل جميع الطلبة. إلا أن هذا لا يعني أن كسر يدي حدث نتيجة للاشتباك مع الشرطة. المهم استمرت الجبيرة لأكثر من أسبوعين، ونظراً لأني لا أملك الصبر، وبسبب الحكة التي تصاحب في العادة مثل هذه الحالات، بالإضافة إلى نظرة الشرطة غير المريحة، قمت بكسرها قبل المدة التي قررها الطبيب. قبل أن يتكلم شارع الحب كان شارع الحب، الذي أطلق عليه هذا الاسم نتيجة لتواجد البنات والأولاد وسيرهم فيه في “العصاري”، يمتد في مرحلة الدفن، من الجسر، أو إدارة الإشغال القديمة، مروراً بغرب مدرسة الحورة الإعدادية للبنين إلى دوار مسجد البلوش. وكان الشارع الرئيس إلى السوق، شارع أبو ذر الغفاري، شارع بيتنا الممتد إلى بيوت الدوخي. مروراً بفريج العوضية. بالإضافة إلى بيت عبدالرحمن السندي زميلي في الصف السادس ابتدائي، وبيت إسماعيل أكبري، وبعد ذلك بيت حسين ميرزا علي المطل على مقبرة البحارنة. وربما كنت أعمل في تلك الفترة موظفاً في المكتبة الوطنية وتحديداً كبائع كتب، في الفرع الذي يقع وراء دكان محمد الصفار لبيع الساعات. وأذكر أنني كنت التقي في طريقي اليومي إلى السوق بالطبيب عيسى أمين، حينما كان طالباً في الثانوية. وكنا نتحدث عن القضايا المحلية والعربية والعالمية. شجرة مباركة أمام مسجد البلوش، بعد افتتاح شارع الحب، -شارع القصر حالياً- يمتد من مدرسة رأس الرمان، أو الشرقية، إلى قصر الشيخ سلمان. هناك بني دوار في وسطه كانت شجرة كبيرة، اعتبرتها إحدى الأشجار القديمة. لم أكن أعرف عمرها، إنما في هذا الدوار، كنت آخذ أوراقي وأقلامي، وأكتب ما أظنه شعراً، من ثلاث إلى أربع قصائد يومياً. وأعود إلى البيت وكنت أتصور أني كأنما أعدت صياغة العالم . عملياً كنت أتبارك بهذه الشجرة الكبيرة العظيمة التاريخية، لكن يبدو أن البلدية وإدارة الأشغال لم يعترفوا ببركتها، فأزيلت وأزيل الدوار العظيم في منتصف الستينيات، وتحول إلى إشارة مرور لا تعني لمن لا يملكون سيارة أي شيء. أولاد منطقة التيل أتذكر الأولاد يلعبون في ساحة التيل؛ “جلحان ملحان”، لا يعرفون ما تعني الثياب غير ستر العورة وحماية الجسم من البرد. أما في الحر، فيكفي “هاف وفانيله وفوطة”. كان هؤلاء الأطفال يرون أن الحياة ليست إلا لعب كرة قدم ، والسباحة في البحر، و«مخاواة” الكلاب، والذهاب إلى المدرسة. لا يشغلهم غير التفكير في الوجبة التالية. فأنت ترى الواحد منهم وهو على سفرة الغداء، يسأل أمه “شنهو العشا”؟!. لكن لا توجد عندهم أية مشكلة، ربما يعاني منها اللاعبون في منطقة غير منطقة التيل. لا يقلقون سواء من انتماءاتهم القومية أو العرقية أو المذهبية، انتماءات ربما يعاني منها الأكبر سناً. كان الجميع يلعبون مع بعضهم البعض كأسنان المشط. عليهم واجباتهم ولهم حقوقهم التي تتساوي مع أفكارهم ومشاعرهم. وربما تتواجد هناك العديد من المشاحنات نتيجة للعب، لكنها تنتهي بانتهاء وقت اللعب. فلا يأخذ الواحد منهم مشاكله إلى البيت. شعر الخيل يغطي قماش البنطال أتذكر من الأولاد عزيز السني، أحد الذين انتقلوا من رأس رمان إلى منطقة الحورة. كان مهتماً بركوب الخيل، وكثيراً ما كان يأتي بالخيل ونركب معه لندور في الساحة. وبعد أن نزلت من جولة أخذني لها ودرت بها على منطقة التيل معه، أرجعني إلى المكان الذي أخذني منه، أمام دكان عزيز. ولأنه لم يكن هناك عدة على ظهر الخيل، نزلت لأجد بنطالي ممتلئاً بشعر الخيل، وذلك استهلك مني وقتاً لأتخلص منه. بعد أن هجرت الحورة، التقيت به حينما كنت أعمل في وزارة الزراعة . وعرفت منه أنه ذهب إلى الإمارات العربية المتحدة، واشتغل في مجال الدراسات والبحوث، وأصدر له أكثر من كتاب في زراعة النخيل. التيل تحتاج إلى من يكتب عنها ربما لم أتمكن من أن أكتب كل ما أريد عنها في تلك المرحلة، بسبب عدم تذكر الكثير من الأحداث، فالكتابة عنها تحتاج إلى أحاديث يرويها من عاشوها، وصور من صوّرها ممن كانوا يمتلكون كاميرات في تلك الفترة. إن تاريخ تلك الفترة، سواء في منطقة التيل، أو أي منطقة من مناطق البحرين، هو بمثابة الاحتفاظ بذاكرة الفرجان والأشخاص حية، نأخذ منها الصالح ونرمي منها الطالح. لا شك أنها عبر ودروس يستفاد منها