كتب مهند أبو زيتون وإسماعيل الحجي:
بعد عمله المسرحي «المساء» في بيروت 2003، قال الأكاديمي والمخرج العراقي الراحل عوني كرومي «يمكن أن أبدأ الحياة قبل الموت بيوم واحد».
«الحياة» أكثر ما يفرض نفسه وسط أحاسيس الغموض الإنساني، بينما يقف المرء وسط صالة المسرح الوطني الجديد ينظر في كل الاتجاهات، يتمنى لو يصرخ، يستحضر صورة متخيلة لصرخة أبي خليل القباني حين أُحرق مسرحه بسبب الرفض، غير أنها صرخة من نوع آخر: «أخيراً.. المسرح الحلم».
يثير المحيط الخشبي للطبقات الثلاث من المسرح رغبة الإبحار، الانحناءات المعقدة ثلاثية الأبعاد لكل خشبة تغري بمقولة الاسكندر المقدوني التي نقلها موليير في مسرحيته «دون جوان»: «أشعر أن قلبي مخلوق لكي يحب العالم كله، وأرغب كما رغب الاسكندر أن توجد عوالم أخرى، لكي أتمكن من أن أنقل إليها فتوحاتي الغرامية».
أجواء المكان معلق في هوائها صرخات اليامال وأهازيج البحارة في بحثهم عن صيد اللؤلؤ الثمين. المكان كله اختصار لقصة اللؤلؤ في وجدان البحريني وذاكرته الجمعية، فالقبة الذهبية غطاء لعلبة جواهر تخبئ اللؤلؤة (المسرح) داخلها مع انعكاس الصورة على بحيرة مجاورة.
البحر حاضر، واللؤلؤ حاضر، والتراث المعماري البحريني حاضر عبر «المشربية» الممتدة في سماء المدخل، وكأن الشركة الفرنسية المصممة «Architecture Studio» أرادت أن تخرج جزءاً من تراث البحرين في تحفة معمارية معاصرة تتسق في الوقت نفسه مع المحيط المتمثل في المتحف الوطني ومرافقه، بل استحضرت أيضاً قصص ألف ليلة وليلة من التراث الإنساني لتعبر عنها برمزية عدد الكراسي المتسعة لألف شخص وشخص.
«الإمكانات التقنية المتحركة تتيح تطبيق أي صورة متخيلة يضعها المخرج لعمله، وبالإمكان تكييفها مع روح النصوص المسرحية بسهولة (..) حين يبدأ العرض ستشاهدون شيئاً مبهراً» يقول المدير التقني أحمد الفاشه.
وبانتظار اختبار هذه الإمكانات مع عرض الباليه الروسي من راقصي مسرحي «البولشوي» و»المارينسكي»، فإن المسرح يفتح آفاقاً مسرحية وثقافية وسياحية تعوّل عليها وزارة الثقافة وكثير من المثقفين مع إمكانات جمالية ومساحية وفنية مهمة على أرض تمتد 12 ألف متر مربع، فهو الثالث مساحةً على المستوى العربي بعد دار الاوبرا المصرية والعمانية.
«لم يكن تنفيذ التصميم سهلاً»، يقول المهندس المعماري نزار المحمدي. ويضيف: «إنه يعتمد على دقة التشطيب (..) انحناءات الخشب لوحدها قصة، لكننا أنجزناها وبأيد بحرينية».
مسرح إغريقي بتفاصيل عربية بحرينية وتصميم غربي معاصر يستحضر التراث الهندي، هذا هو باختصار مكثف مسرح البحرين الوطني، كأنه بوتقة تجمع الحضارات الإنسانية تحت «قبة الجوهرة».
المسرح الذي افتتحه جلالة الملك في 12 نوفمبر ضمن فعاليات المنامة عاصمة الثقافة العربية 2012، يعوّل عليه سياحياً أيضاً مع انطلاق فعاليات «المنامة عاصمة السياحة العربية 2013»، وخصوصاً في الربع الأول من الفعاليات المتمثل في «السياحة الثقافية». بهذا المعنى يمكن أن يكون المسرح سفير البحرين إلى العالم وسفير العروض العالمية إلى البحرينيين، ومحركاً أساسياً من محركات المسرح البحريني عموماً.
كان المسرح الوطني عبارة عن فكرة قبل أكثر من عشر سنوات، صار مشروعاً على يد وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة قبل 18 شهراً، واليوم صار الحلم واقعاً، ولكن ماذا بعد؟!
ليس متحفاً للفرجة
لدى البحرين الآن مسرح وطني ضخم، ولدى البحرين تاريخ حركة مسرحية يمكن أن يثير نقاشاً عميقاً عن محركاته الفردية والجماعية، وفترات ازدهاره وركوده، فكيف سيؤثر توفر البنية التحتية على حركة المسرح البحريني، وهل يشعر المسرحيون أنه مسرحهم فعلاً، وهل يستجيبون للتحدي الذي تفرضه ضخامة المنشأة على جودة العروض وإبداعها؟
نائب رئيس مسرح البيادر جمال الصقر لا يرى في المسرح الوطني متحفاً للفرجة فقط بل «حلماً تحقق» و»بوابة لدخول عوالم الفن المسرحي (..) في المستقبل القريب سنشاهد عروضاً مسرحية مميزة تواكب الصرح، ومهرجان المسرح الخليجي على الأبواب».
مدير عام المسارح عبدالقادر عقيل أيضاً يعتبر المسرح «حلماً قديماً جديداً تحقق بدعم سخي من جلالة الملك واهتمام شخصي من الشيخة مي إذ كان من أولى وأهم أحلامها. ولو لم يكن لفعالية «عاصمة الثقافة العربية» سوى إنجاز هذا المسرح لكفاها، لأن فكرة اليونسكو من العواصم الثقافية بالأساس تشييد البنى التحتية في أي بلد».
أما عضو مسرح أوال محمود الملا فيعتبر المسرح «تحفة فنية»، ويرى فيه «تحدياً للمسرحيين البحرينيين للارتقاء بأعمالهم للأفضل، ومقاربة المعايير المسرحية العالمية لتقديم عروضهم على خشبة المسرح الوطني». ويتفق معه الصقر في أن الصرح بما يمثله من تحفة معمارية فريدة «من شأنه تحريك العجلة الراكدة للمسرح البحريني». ولكن لا يمكن -حسب عقيل- تقديم عروض ضعيفة على خشبة المسرح، فالمواطن يتوقع أن تكون العروض المقدمة قوية، ولا يصح استثمار مسرح بهذا الحجم وبتكلفة 19 مليون دينار لتقديم عروض ضعيفة، المواطن لا يقبل ذلك، وهذا حال كل المسارح الكبرى ودور الاوبرا في العالم.
إما معك أو ضدك!
من يحدد معيار جودة العرض الذي يتقدم للمسرح الوطني حتى لا يكون الأمر خاضعاً لأمزجة أشخاص؟
يجيب عبدالقادر عقيل بأن وزارة الثقافة تتبع نهج اللجان المشكلة من المثقفين أنفسهم، ولم يسبق لها التدخل أبداً بتقييم العروض، إن كان لتقديمها على خشبة الصالة الثقافية أو ترشيحها للمشاركة في المهرجانات الخارجية، لكن في الحقيقة اللجان المعنية باختيار العروض المسرحية للمشاركة في المهرجان الخليجي بالكاد تجد عرضاً يصلح للمشاركة. بخصوص المسرح، فسيقدم النص أو العرض الفني للجنة من المثقفين، وإن كان العرض قوياً فسيفرض نفسه ويقدم على خشبة المسرح الوطني المفتوحة لجميع المسارح الأهلية ولكل المثقفين والموسيقيين البحرينيين.
جمال الصقر يعتبر هذه المعايير «حالة صحية لم تبتدعها البحرين، بل محاولة لتحفيز المسرحيين باتجاه الارتقاء بأدواتهم وتقديم عروض لائقة بالمكان وتواكب تطورات المسرح العالمي». ويضيف: «الكرة بملعب المسرحيين الآن، فالمسرح يقدم خدمة للجوانب الفنية والثقافية المتعددة، ونأمل أن يواكب بعروض متوازية محلية وعربية وأجنبية تقارب مستوى الصرح المتكامل»، لافتاً إلى أن المسرح الوطني من شأنه تخفيف الضغط عن الصالة الثقافية، وإتاحة المجال لتوزيع العروض وتقديمها عبر المنشأتين «نحتاج صالات عرض أخرى في كل محافظة على غرار الدول المجاورة، الصالات الآن كلها بالمحرق، أين صالات الوسطى والشمالية ومدينة حمد؟». ويذهب محمود الملا إلى أن «المطلوب الارتقاء بأدواتنا المسرحية وتقديم عروض جذابة وجادة للناقد المسرحي والمشاهد العادي».
غير أن هواجس يثيرها بعض المسرحيين من أن يكتفي المسرح الوطني بتقديم العروض العالمية فقط، فيما يحاول عبدالقادر عقيل إزالتها بالقول إن «المسرح فرصة أمام الحركة المسرحية لترتيب نفسها وتقديم الأفضل (..) إنه ليس بيتاً خاصاً لا يدخله أحد، فدعونا لا نستكين للكلام المتشائم الذي يحبطنا ويؤثر في ثقافتنا باستباق الأمور على مبدأ «إما معك أو ضدك». الفن يفرض نفسه ونحن نقف بجانب المسرحيين لتقديم عروض قوية تمثل البحرين في المهرجانات الخليجية بعد أن شاب المشاركات الأخيرة بعض التذبذب». لماذا لا تنتج وزارة الثقافة عرضاً قوياً؟ يجيب عقيل: «توجد فكرة لإنتاج عمل ضخم، لكنها مازالت في بداياتها، والتركيز الآن على الفترة التشغيلية للمسرح الوطني».
هزلية تبعث على الضحك
إذن يتفق محدثونا على أن الحركة المسرحية في حال ركود، سببه عند عبدالقادر عقيل تأثير المناخ السياسي في السنتين الماضيتين على الحركة الثقافية عموماً ليس في البحرين فقط بل في كل الدول العربية، لكنه يعتقد أنها ككل الموجات السياسية منذ 1967 وحتى الآن تأتي وتذهب لأن الثقافة أبقى. في حين يلفت الصقر إلى جوانب أخرى تتعلق بخفوت نجم الفن المسرحي عالمياً «التوجه الإعلامي ينصب اليوم على شبكة الإنترنت والفضائيات وتعدد المرئيات، وحتى العروض المسرحية البريطانية الكلاسيكية تأثرت نوعاً ما، وهناك دول ما زالت تقدم عروضاً مسرحية مميزة ولها جمهورها في مصر والكويت مثلاً»، منبهاً إلى مسألة تأثير الفضائيات على السينما في بداية الألفية «لكن سرعان ما عادت السينما لجمهورها» ويتابع: «الحال نفسها يمكن أن تنطبق على المسرح، ولكن التغيير مطلوب».
ويدعو الصقر المشتغلين بالمسرح في البحرين إلى «مواكبة الزخم التقني العالي في عالم السينوغرافيا، وأن ينتفض المسرح على ذاته، ويعيد هيكلة فورماته لإنتاج عروض مختلفة تقدم للعالم وجه البحرين الحقيقي». ويعزو محمود الملا الركود إلى عوامل بعضها ذاتي والآخر موضوعي «تسرب الكسل نوعاً ما إلى المشتغلين بالمسرح، وهناك عزوف عن متابعة العروض المسرحية لصالح شاشة التلفزيون. الممثلون أنفسهم فضلوا الأعمال الدرامية على المسرح بالآونة الأخيرة، فهي أسهل ومجزية مادياً وتحقق للفنان انتشاراً أوسع».
يتمنى الملا على المسرحيين البحرينيين «تطوير أدواتهم المسرحية بعيداً عن المسرح التجاري الرائج حالياً، وخصوصاً العروض المقدمة في المناسبات المختلفة والأعياد، حيث لا فكر ولا ثقافة ولا عمق، بل مجرد عروض هزلية تبعث على الضحك»، غير أن الملا في النهاية متفائل بافتتاح المسرح الوطني. تفاؤل يعبر عنه عبدالقادر عقيل بتعبير «البحرين بخير والثقافة بخير وأقول لكل المسرحيين والمثقفين: تعالوا إلى المسرح الوطني فقلوبنا مفتوحة للجميع».
لدينا مسرح وطني، وبقي أن تنهض الحركة المسرحية بدعم رسمي وأهلي لنفتح ثغرة في جدار، على قاعدة «نحن محكومون بالأمل» أطلقها المسرحي السوري سعدالله ونوس الذي أصر على أن «يبدأ الحياة قبل الموت بيوم واحد».