كتب - عبدالله الذوادي:
الشخصيات غريبة الأطوار تحفظها الذاكرة عادة، ولا تغادرها، والبحرينيون ليسوا بعيدين عن هذه الحالة، واكتنزت ذاكرتهم بأسماء شخصيات عجيبة هي إلى الجنون أقرب وليسوا بمجنونين.
سالمين ابن فريج الفاضل إحدى هذه الشخصيات، آخر جنرالات الحرب بـ«الشكل فقط»، يهوى ارتداء ملابس جنرالات الحربين العالميتين الأولى والثانية، برتبها ونياشينها، يتجول فيها بأسواق المنامة بخيلاء الطاووس، وفي آخر النهار يسأل الناس عطاياهم وهباتهم، بالطيب حيناً، وبالتلويح بعصاً يحتفظ بها تحت إبطه أحياناً.
الجنرال سالمين
حي الفاضل أو فريج الفاضل زاخر بقصص وأحاديث عاشها أهل الفريج بطيبتهم وانتمائهم القومي وكرمهم الذي عرف به أهل البحرين من غني وفقير وعوائلهم من الفاضل والقصيبي والبسام والزامل والسعد وكثيرون لا يتسع هذا الحيز لذكرهم.
في فريج الفاضل نضع أيدينا على واحدة من الشخصيات الغريبة تميزت بظرفها في تلك الحقبة، شخص اشتهر بغرابة تصرفاته وكان يدعى سالمين.
سالمين شاب طويل القامة أسمر السحنة، يخرج صباحاً من منزله مرتدياً زياً عسكرياً وما هو بعسكري، يشتريه من أحد دكاكين شارع الشيخ عبدالله، المتخصص في الاتجار بملابس الجنود الذين أُسِرُوا أو قُتِلُوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية وتباع ملابسهم في مختلف بلدان العالم ومنها البحرين.
كان سالمين يشتري بدلات مصنوعة من الأصواف الجيدة، يؤتى بها في رزم كبيرة وتباع بأثمان مناسبة يشتريها الفقراء خاصة البحارة منهم، أما اللباس المدني كالبدل والمعاطف فيشتريها المدنيون، وكانت المدارس في بداية الخمسينات تشتري تلك الملابس وتوزعها على فقراء الطلبة كمعونة للشتاء.
يخرج سالمين من بيته متهندماً باللباس العسكري والنياشين تتدلى على صدره، ربما نياشين عسكرية لرتب مارشالات أو أكبر أو أصغر، وكان يحمل تحت إبطه عصاً عسكرية وفي يده الأخرى مبخر يضع فيه البخور وحين يدخل سوق المنامة يعطر أزقة السوق بالبخور ويطوف على الدكاكين يأخذ منهم ما تجود به أيديهم ومن لا يعطيه بالطيب يرهبه بالعصا فيدفع مجبراً.
يستخدم سالمين بخور العود أو الياوي أو اللبان العماني أو السوداني، وكلها تبعث روائح طيبة تبدد رائحة العرق خاصة في فصل الصيف حين تنبعث رائحة الحمالين الذين ينقلون البضائع على ظهورهم، أو يجرون أكياس الرز والسكر على عرباتهم إلى المنازل والمخازن فيتصبب العرق من أجسادهم، حينها يأتي سالمين بمبخر تتدلى منه السلاسل النحاسية ورائحة البخور تعطر الأزقة الضيقة أو الدكاكين حين يطلب أصحابها ذلك.
هكذا عاش المرحوم سالمين واحداً من شخصيات فريج الفاضل النادرة، وطالما تغنى بها الشاعر المرحوم ابن فريج الفاضل غازي بن عبدالرحمن القصيبي، هابه الأطفال واحترمه الكبار وكان رمزاً من رموز فريج الفاضل، رأيته وعرفته وكنت أول من يراه يخرج من بيته ممسكاً المبخر في الصباح ويبخرني وأنا أرتعد خوفاً، عندما عملت خادماً في بيت لصيق لبيته.
سالمين عاش حياة يلفها الغموض ورحل في جنازة غامضة وطواه النسيان، وكان في الواقع أسطورة نبتت في فريج الفاضل وارتبط اسمه باسم الحي العريق ليتحول إلى فريج للآسيويين بعدما كانت تقطنه أعرق الأسر البحرينية مثل أسرة الفاضل والقصيبي والعجاجي وتقي والحمر وبهزاد والبسام والشمل والمردي وبوزيزي ولوري والخاجة وخلفان والباكر والمهزع وأجور والسيد وكمال والسعد «الشيخ عبداللطيف» والمرجع يوسف محمد أحمد بوزيد.
خيرات الأفريقي سقاء الحورة
إذا خرجنا من فريج الفاضل مودعين الإخوة الكرام وسالمينهم الذي انتقل إلى جوار ربه تاركاً ذكراه الطيبة، نتجه شرقاً قاصدين حالة بني أنس «الحورة»، نتذكر أزقتها وناسها وكيف كان الترابط الأخوي الإنساني يربط عوائل أبناء الحورة وكأنهم أسرة واحدة، نتذكر ذلك الرجل الأسمر المدعو فرج أو خيرات، وهو شخص أفريقي كان سقاءً يمارس مهنة السقاية من عين الحورة، ولكنه لا يسقي إلا لبيت سيدة، وكان يتظاهر بالهبل.
عندما ينتهي خيرات من السقاية يبدل ملابسه ويلبس ثوباً وسديرياً وعمامة ويمسك عصاً، يذهب إلى سوق المنامة يتسول، يقف أمام المتاجر ويردد كلمة خيرات، ويستمر حتى الظهيرة وفي طريق عودته يمر ببعض بيوت التجار أمثال عائلة القصيبي وعبدالعزيز العلي البسام ويتناول طعام الغداء، ومن ثم يتوجه إلى بيت سيدة في الحورة يعاود السقاية ويملأ الجرار «الجحال» بالماء، كان الرجل يتمتع بحس إنساني مرهف.
حين يمرض أحد السقائين وخاصة صلاحات الضرير، يتولى خيرات توصيل المياه إلى زبائن زملائه، دون أن يستلم منهم أية مكافأة، ذات مرة وجدناه جالساً عند العين، حيث اعتاد أن يأتي ليلاً ليستحم، جلس معنا وأخذ يتحدث إلينا، ومن خلال حديثه الشيق وجدنا فرجاً غير الأبله الذي يتظاهر بالبلاهة، حدثنا عن قصة خروجه من أفريقيا، حيث سُرق مع عدد من رفاقه في إحدى القرى الأفريقية وجيء بهم إلى الجزيرة العربية، وهنا اشتراه أحد الأثرياء وأخذه إلى مكة المكرمة قبل الحكم السعودي، وشب وترعرع هناك، ثم بيع مرة أخرى وجيء به إلى البحرين ولم يغادرها منذ حط بها الرحال.
كان أمل خيرات أن يتزوج وينجب أطفالاً مثل زملائه الأفارقة ممن جيء بهم إلى البحرين وعاشوا وتزوجوا وأنجبوا أبناء وبنات، لكن فرج لم يواته الحظ ليرتبط بابنة الحلال وينجب أولاداً وبنات مثل غيره، وعاش على هذا الأمل إلى أن توفاه الله.
أردت أن أعرج على قصة هذا المسكين بعد أن توفى والحسرة تأكل قلبه، فعندما يختلي بكوخه نسمع نحيبه حسرة على ما فاته من عمر دون أن يحقق أمنيته، لذلك عاش متظاهراً بالبلاهة منعزلاً عن الناس إلا عندما يتوجه إلى السوق، وكان مرحاً ضحوكاً بشوشاً يداعب الجميع فيعطفون عليه وينقدونه استجابة لطلبه حين يقول بيسا.. بيسا، وكان عدد من الناس يسمونه فرجوه بيسا.. بيسا، رحم الله فرجوه لينعم بنعيم الآخرة عن نعيم الدنيا الفاني.
البحرين بوتقة الشعوب
امتازت البحرين بتنوع سكانها وسماحة أهلها وحبهم للآخرين منذ عصور الزمن السحيقة، فنرى أجناساً مختلفة لشعوب متعددة جاؤوا من مجاهل أفريقيا، وبعضهم من سواحل فارس ومن بلدان مختلفة طلباً للرزق فاستقبلتهم بكل الود والمحبة كعادتها في احتضان ضيوفها، وشاركوا البحرينيين في أعمال الغوص قبل اكتشاف النفط، عندما كان البحر ملاذاً لبعضهم وشغلوا الوظائف المهنية كالخبز والطبخ، وتأهلوا وتزاوجوا وتصاهروا مع البحرينيين وشكلوا خليطاً متجانساً استوعبتهم أرض البحرين الطيبة بأهلها وناسها.
في أرجاء البحرين رأينا نماذج مختلفة من البشر، سأنقلكم إلى منطقة من مناطق القضيبية، منطقة تسمى الخضر، نسبة إلى مرتفع كان يقع في منطقة مقابلة لسينما أوال قبل بنائها، كانت المنطقة خالية تماماً من الحياة الإسكانية، خلاء كبير يمتد من جنوب مقبرة المنامة إلى قصر القضيبية، وبجواره 3 قبور كبيرة كانوا يقولون إنها مقبرة أحمد الفاتح.
كانت المنطقة الغربية أرضاً خلاء يقال إنها كانت ضمن مقبرة المنامة إلى شرق المرتفع الذي قالوا عنه إنه قبر الخضر عليه السلام، وكان أهل البحرين ينـــــــذرون عليه، يأتونه إليه من المحرق والمنامة والقرى، وترى تلك البقعــــــة دائماً مزدحمة بالباصات، والقبر مُحَوَّط بحوطة كبيرة ويداخلها حوطة صغيرة بها قبر تحيقه الأعلام الخضر، ويحرسه رجل كبير السن يستلم الهدايا من البيض والبخور والنقود ويوزع على الزوار «مسالج» من القماس الإبريسم الأخضر لفك نذورهم، ويعطونه من الطعام ما لذ وطاب.
لا يهدأ المكان إلا عندما يحل الظلام ويبقى سراج واحد « فنر» يضيء المكان، وبعض الشموع حول القبر، وتصبح المنطقة موحشة لا تسمع فيها إلا نباح الكلاب التي يكثر وجودها في تلك المنطقة الموحشة، ويبقى الرجل المسن وحيداً في ذلك المكان يتوافد عليه نفر من أصدقائه، ولم يكن أحد يعلم ما سر أولئك الذين يتوافدون عليه ليلاً وتنطلق من ذلك المكان الموحش ضحكات هيستيرية.
اعتقد البعض أنهم الجن يتسامرون في ذلك المكان الموحش البعيد عن الضوء والأنوار، ولا ترى عن بعد سوى الشموع تتحرك أمامها الأشباح في حركات عجيبة لارتفاع المكان في موقع مخيف لا يجرؤ إنسان على زيارته ليلاً، فهو محاط من جهة الشمال بمقبرة الشيعة ومن الغرب بمقبرة السنة ومن الشرق فراغ ثم مقبرة النصارى ثم مقبرة اليهود في الشرق أيضاً جنوب مقبرة النصارى، ولم يكن شارع الزبارة قد شق، لأن الأرض الخالية كانت أرضاً موحلة. كان العجوز يحرس القبر مستمتعاً بمملكته ولا أحد يعرف سره، شيئاً فشيئاً تكَشفَّ أمره وبان، واتضح أن ذلك المكان المقدس لم يكن سوى وكراً لبيع المخدرات، اكتشف بعد ما عمرت المنطقة وبني النادي الأهلي وسينما أوال ونادي العروبة ورصف الشارع وتنويره، ووزعت الحكومة الأراضي الخالية على موظفي الحكومة فبدؤوا في بناء بيوتهم وسموا المنطقة المنامة الجديدة، وتم القبض على ذلك الرجل الذي كان في النهار ملاكاً وفي الليل شيطاناً، وهُدِمَ المرتفع وبني حول قبور أحمد الفاتح سوراً لايزال قائماً وتشرف عليه وزارة الأوقاف وبني شمال القبور مسجد تُصلى فيه كل الفروض.
شخصيات طريفة
3 نماذج تنتمي لـ3 مناطق من فرجان المنامة، واحد منها هو حارس الخضر مرتكب المعاصي قبل أن يقع في شر أعماله، بعد أن ضحك على الناس سنين طويلة، والثاني ابن فريج الفاضل سالمين الذي يجوب سوق المنامة بمبخره يحرق البخور ليعطر بها أزقة السوق الضيقة التي عادة ما تكون رائحة العرق والزفر والروث فيها تزكم الأنوف فيفرح بقدومه رواد السوق، رحل لم يتذكره أحد والسؤال هل كان به مس من جنون أم أنه استهوى لعبة التبختر بالملابس العسكرية؟.
فرج «خيرات» قلما يذكره أحد، لأن جيل سوق المنامة غادروا الحياة ورحلت معهم ذكرياتهم، وهي ذكريات عايشها بعض الأحياء من أبناء الحورة، ممن لايزالون يذكرون «خيرات»، الرجل الطيب الخدوم لكل أبناء الفريج الذي رحل عن الدنيا وطواه الزمن.