^   أثارت زيارتي للمحرق ولقائي برئيس مجلس بلدي المحرق عبدالناصر المحميد، محرقي الأب ومنامي الأم، الكثير من الذكريات الجميلة والشجون. إن الدائرة الثالثة بالمحرق تحتوي على عمق الأصالة والتاريخ البحريني الممتد في القِدم، وكيف لا تكون كذلك وجدرانها وبيوتاتها وممراتها الضيقة في (الفرجان) المعتقة شاهدة على مرور الغوص والبحر والبناء والصيد واللؤلؤ والمقاهي العتيقة والمجالس المربية والنفط والتعليم عبرها وعبر ذاكرتها التي كلما شاخَتْ زادت نضارة وحياة. في مطلع السبعينيات، كنت طفلاً أتسلل خلسة لأركب (باص النقل العام) آنذاك، و(بعشر فلوس) أهرب من الفاضل إلى المحرق، فأنزل بمفردي عند (لستيشن) وفي سوق القيصرية تحديداً، أتجول في التاريخ وفي كل ما يمسّ بحرينيتي، فكنت أراقب الآباء على كراسي (القهاوي) الشعبية، وهم يثرثرون كالعجائز، وحين يقترب وقت المغرب أُسرع نحو محطة النقل العام الأحمر والأبيض، لينقلني من جديد نحو فريج الفاضل. اليوم، وكلما أحببت أن أتذكر طفولتي، أخذت نفسي متجولاً في المحرق، فهي ولقربها من الفاضل ولا يفصل بينهما سوى الجسر وبعض البحر، تربطني بها علاقة حميمية خاصة. هناك (دواعيس) ممتدة من القيصرية إلى فريج سيادي ومروراً بالحياج وغيرها من المناطق الشريفة المختلطة. ما يميز المحرق وربما الفاضل، هو في انصهار الطوائف واللهجات والأشكال وقبل ذلك الدم، لأن المحرق مستعصية على فهم كل طائفي من الطائفيين الجدد، فأهلها تناكحوا وتناسلوا وأنجبوا رجالاً لا يمكن أن نعرفهم إلا بمحرقيتهم العريقة وبحرينيتهم المميَّزة، وكلما مرَّت أزمة من أزمات السياسة الطارئة، يأبى هؤلاء القوم إلا أن يعودوا لماضيهم العريق، ولهذا فهم لا يريدون أن يرحلوا من المحرق، بالرغم من كل الإغراءات، وبالرغم من تغيّر وعي الناس وأسلوب حياتهم في البحرين الحديثة، لكنهم آثروا أن يسكنوا في منازل ضيقة في فرجانهم على أن يخرجوا في قصور لا تذكرهم بالحب والمحبة والألفة والتعايش الكريم. خلال دردشتي مع المحميد، يؤكد لي بأن الدولة تريد تحفيز أهل المحرق على البقاء في مناطقهم، وعدم الخروج منها، لكنها لا تقوم بما يضمن لها بقاؤهم إلى أبعد مما هم عليه الآن، لأن المحرق باعتبارها مدينة تاريخية، تحتاج إلى رعاية واهتمام وتطوير، فإذا ضاق أهلها ذرعا وجاء جيل لم يعِشْ ما عاشه الأوائل من أبناء المحرق من الذاكرة الساحرة والأخَّاذة، فمن المؤكد أنهم سيرحلون لمناطق أكثر تطوراً واهتماماً من قبل الدولة!. تحتاج المحرق اليوم لضمان بقاء أهلها فيها جيلاً بعد جيل، هو في أن تنال هي وأهلها على الرعاية الكاملة من الحكومة، وإلا سوف تكون كباقي المدن الشعبية التاريخية التي اندثرت تحت أقدام الحضارات الإسمنتية الغبية، أو تحت الإهمال الذي يتطاول أهله عمداً أو سهواً على تاريخ وطن راقٍ كالبحرين. نحب المحرق ونحب دواعيسها وناسها وبحرها وتاريخها وذكرياتها، لكن السؤال المطروح هنا، هل غيرنا يحب المحرق كما نحبها نحن؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فنقول لهم لماذا أُهمِلَتْ جزيرة اللؤلؤ والمرجان؟ .... هل لكم أن تجيبوا على هذا السؤال الأليم؟