كتب - حمد إبراهيم عبدالله:
ألهمت الحرب الأهلية الأمريكية التي دامت بين عامي 1861 و1865 خيال الشعراء والكتاب والموسيقيين، وخلّدوا وقائع الحرب وتفاصيلها شعراً ونثراً وموسيقى، لتبقى روائع خالدة وشاهدة على حقبة سوداء بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
ويجهل كثيرون أن فرقة الشرطة البحرينية عزفت بعضاً من ألحان الحرب الأهلية الأمريكية الشهيرة، وعندما أشرف السير تشارلز بلجريف على تدريب شرطة البحرين على الآلات الموسيقية، كانت الفرقة تعزف صبيحة كل أحد في المنامة أغنية «بينما كنا نعبر في جورجيا».
أشعلت هذه الأشعار والأناشيد حرباً ثقافيةً بجانب الحملات العسكرية بين الشمال والجنوب والأمريكي، فرداً على قصيدة «إحملوا السلاح في ديكسي» نظم الموالون لاتحاد الولايات المتحدة الأمريكية قصيدة مماثلةٍ على غرار اللحن المصاحب لقصيدة الكونفدراليين الشهيرة للرد والسخرية على أهل الجنوب في قصيدةٍ عُرفت باسم «اتحاد ديكسي».
مسار الحرب
مع اقتحام الجنوبيين أو ما يُعرف بالقوات الكونفدرالية حصن سمتر أبريل 1861 بقيادة الجنرال بير غوستاف توتانت بوريغارد، بدأت أولى شرارات الحرب الأهلية الأمريكية، حينها أصبحت الحكومة المركزية في واشنطن عند مُفترقٍ خطر، إما مواجهة التمرد بالقوة أو الاستسلام للواقع المفروض عليهم من الجنوب والاعتراف بشرعية دولة الجنوب الجديدة وهي الولايات الكونفدرالية الأمريكية.
أمام هذا التحدي الخطير قرر إبراهام لينكولن أخذ الخيار الأصعب وهو مواجهة التمرد بالقوة، على أمل أن يُخضع الشمال المُتطور الجنوب في فترةٍ وجيزة.
وعلى عكس خلفية إبراهام لينكولن كان جفرسون ديفيس يتمتع بخبرةٍ عسكريةٍ متنيةٍ، وعمل ديفيس في العسكرية لعدة سنوات وشارك في حروبٍ شتى كان أبرزها الحرب التي خاضها الجيش الأمريكي ضد مجموعةٍ من قبائل الهنود الحمر وعُرفت باسم «البلاك هوك» عام 1832، حيث ذاع صيته، ووُكل بمهمة اقتياد زعيم قبائل «البلاك هوك» أسيراً من ويسكونسن إلى سانت لويس.
واختير ديفيس في عهد إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين بيرس لمنصب وزير الحربية الأمريكية عام 1853، وتمتع ديفيس بدرايةٍ تامةٍ بالشؤون العسكرية في الدولة وعمل في المجال السياسي، ليدمج بين العسكرية والسياسة.
لم يتردد ديفيس في تأسيس أعمدة الدولة الجديدة فوضع دستوراً جديداً، وتم اختيار علم جديد للدولة من تصميم الفنان الألماني نقولا مارشال. صُممت الراية وحملت 3 أعمدة اثنان منها باللون الأحمر وواحدة باللون الأبيض، واشتملت الراية على مربعٍ باللون الأزرق حمل 7 نجومٍ بيضاء على شكلٍ دائري وتُمثل تلك النجوم ولايات الكونفدرالية السبع المنسحبة من الاتحاد، وتجدر الإشارة إلى تعدد رايات الكونفدراليين فيما بعد من ناحية التصميم، وكان البعض منها يتسبب في بلبلةٍ في صفوف الجيوش المتنازعة نظراً لتقارب شكلها وألوانها مع راية الاتحاد الأمريكي، واختار الكونفدراليون مدينة ريتشموند بولاية فرجينيا عاصمة لهم.
وصمم الألماني نقولا مارشال أيضاً البدل العسكرية للقوات الكونفدرالية التي تميزت بلونها الرمادي، فيما كانت القوات الاتحادية ترتدي الزي الأزرق الغامق، وسارعت النسوة في تصميم الملابس مساهمةً منهن في الجهود العسكرية، إلا أن ضعف موارد الكونفدراليين كانت تحتم على بعض جنودهم لبس ثيابٍ عادية اللون والمظهر.
كان من المتوقع أن يكتسح الشمال الجنوب ويُنهون المقاومة الكونفدرالية في أسابيع بفضل قوة السلاح المتطور الذي يمتلكه الشماليون، ولكن تلك الأماني لم تتحقق لعدة أسباب منها هجرة الكثير من أبرز القادة العسكريين الأمريكيين مخيم الاتحاد الشمالي وانضمامهم للجنوب الكونفدرالي، وضعف القيادة العسكرية الاتحادية بسبب اعتمادها شبه الكلي في السنوات الماضية على المليشيات المسلحة غير النظامية في معاركها، إضافة إلى إصرار أهالي الجنوب على مواجهة القوات الاتحادية بكل ما لديهم من مالٍ وعتاد.
ومن أبرز أولئك القادة العسكريين الذين هجروا الاتحاد القائد العسكري المحنك روبرت أدوارد لي، الذي عرض عليه لينكولن بمشورةٍ من رئيس هيئة الأركان وينفيلد سكوت قيادة جميع وحدات جيش الاتحاد، فرفض عرض الرئيس الأمريكي ونزح للجنوب للانضمام إلى الكونفدراليين بحجة ولائه لولاية فرجينيا، وغدا من أهم وأبرز قادة القوات الكونفدرالية في الحرب الأهلية.
بين الشمال والجنوب
رغم أن الاسم الرسمي الذي اتخذته الدولة هو الولايات الكونفدرالية الأمريكية، إلا أن عموم الشعب الأمريكي من الشمال والجنوب أخذوا يطلقون ألقاباً وأسماءً على الولايات الثائرة، وكان من أبرز الألقاب هو اسم «دكسي» ومازال يُستخدم حتى يومنا لتمييز ولايات الجنوب الأمريكي الثائرة عن سواها.
واختلف المؤرخون حول أصل إطلاق لقب اسم دكسي على ولايات الجنوب، ولكن من المرجح أن الاسم مشتق من التسمية التي أُطلقت على الحدود التي رسمها الماسحان البريطانيان تشارلز ماسون وجرمايا ديكسون بين بنسلفانيا إلى الشمال وميريلاند إلى الجنوب بعد خلافٍ حدودي نشب بين تلك المستعمرات ومستعمراتٍ أخرى مجاورة، فأصبح يُلقب الخط الذي حدده الماسحان لاحقاً بخط ماسون ديكسون، وتمت عملية المسح في الأعوام 1763 - 1767، وحُرف فيما بعد اسم ماسون ديكسون إلى ديكسي، ومن هنا أتى اللقب الذي تميزت به ولايات الجنوب الأمريكي عن سواها.
إضافة إلى الموارد الصناعية والتكنولوجية كان الشماليون يستحوذون أيضاً على أبرز الموارد الاقتصادية للدولة، فكانت أغلب البنوك المدارة من قبل الدولة قابعة في الشمال الأمريكي وتستحوذ على ما يقرب 81% من ودائعها.
لم تسر الأحداث في بادئ الأمر على هوى كبار رجالات الشمال الأمريكي، وأخذت الإشاعات تتزايد ودب الذعر في صفوف الأهالي الذين خشوا من زحف الجنوبيين على العاصمة للإطاحة بالرئيس إبراهام لينكولن.
ومن الطبيعي أن الحمل الثقيل الذي وُضع على عاتق الرئيس الأمريكي الجديد قد يُغرق أي رجلٍ في بحرٍ من اليأس، لكن لينكولن لم يرضخ لتهديدات وإرهاب سياسييّ الجنوب، وقرر المواجهة حرصاً على إبقاء وحدة الاتحاد وسلطة العاصمة المركزية.
بدأ لينكولن يعد العدة لخوض الحرب المفروضة عليه وعلى الحكومة الأمريكية قسراً من قبل الجنوب، ووجد الرئيس الأمريكي نفسه في مهمةٍ صعبة حيث لم يكن الجيش الأمريكي حينها مهيئاً لخوض حربٍ طاحنةٍ بعيدة الأمد، ولم يكن الجيش الأمريكي على عكس باقي الدول حينها مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا والدولة العثمانية يمتلك عسكراً يعملون في الجيش الأمريكي على مدار السنة، فكان أغلب العساكر المجندين في الحروب الأمريكية متطوعين من مليشياتٍ محلية تنتهي فترة خدمتهم العسكرية مع نهاية النزاع.
التجنيد الإجباري
بسبب قلة المقاتلين النظاميين فرض طرفي النزاع أي قوات الاتحاد والكونفدراليون قانون التجنيد الإجباري على مواطنيهم، لرفع أعداد جيوشهم المرابطة عند جبهات القتال، فيما وضع في الشمال غرامة للإعفاء من الخدمة العسكرية قدرت بـ300 دولار أمريكي، وكان يصعب على المواطن الأمريكي آنذاك جمع ذلك القدر الكبير من المال، أما في الجنوب فأُعفي بحسب القانون الموضوع عن الخدمة العسكرية كل تاجر يملك 20 رقاً أو ما زاد عن ذلك.
تسارعت الأحداث، وقبل أن يُقدم الاتحاد على تأديب الثوار استغل الكونفدراليون صدمة وخوف أهل الشمال فأقدموا على خطوةٍ جريئةٍ وغير مسبوقة، تضمنت قطع العاصمة واشنطن عن باقي مدن وضواحي الشمال الأمريكي من خلال شل حركة القطارات والتعرض لمكاتب التلغراف والبريد ومنع موظفيها من التنقل من وإلى المدينة صبيحة يوم 20 أبريل 1861، ولعلهم من وراء تلك التحركات العسكرية طمحوا للاستيلاء على العاصمة واشنطن ونقل عاصمتهم إليها، إضافة إلى نشوب ثورة عارمة وعمليات تخريبية في مدنٍ مجاورة لعاصمة الاتحاد، كان من أبرزها ثورة أهالي مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند. هبت فيالق من الجيش الأمريكي المجاورة للعاصمة لإنقاذها من بطش الكونفدراليين، وأقدموا على مد خطٍ لسكك الحديد حول المدينة، اكتمل العمل على الخط ونجحوا من خلاله في كسر الحصار المفروض على المدينة ومدها بإمداداتٍ عسكرية وتموينية بإشراف آندرو كارنيجي، وبهكذا تمكن الاتحاديون وأنصارهم من رفع الحصار عن العاصمة الأمريكية والتصدي لتقدم الثوار. عزم أبراهام لينكولن مع بدء العمليات العسكرية عدم التدخل المباشر في سير المعارك، وتوكيل مهمة إدارتها إلى أحد أبرز قادة الولايات المتحدة الأمريكية المخضرمين حينها ورئيس هيئة أركان الدولة وينفيلد سكوت الذي كان يبلغ من العمر 75 عاماً، وصمم استراتيجية عسكرية للقضاء على قوى التمرد عُرفت بـ»استراتيجية الأناكوندا»، والاسم مستوحى من اسم الأفعى الشهيرة التي يصل طولها في بعض الأحيان إلى أكثر من 10 أمتار. هدفت الاستراتيجية إلى محاصرة الجنوب الأمريكي وقطع جميع الإمدادات البحرية عنه وعرقلة سير تجارة القطن التي يعتمد عليها الكونفدراليون بشكلٍ كبير.
اعتمدت استراتيجية الأناكوندا بشكلٍ كبير على محاصرة الجنوب وضرب تجارتهم بحراً، ومن أولى الخطوات التي أقدمت عليها القيادات العسكرية في الجيش الأمريكي حينها التسريع في بناء سفنٍ حربيةٍ لتساهم في دعم الحصار نظراً لقلة السفن القابعة في حوزة بحرية الولايات المتحدة الأمريكية، فبدأت عملية إنشاء السفن العسكرية وتسليحها، إضافة إلى تحويل العديد من السفن المدنية إلى حربية حتى تساند باقي السفن المسلحة في حصارها الجنوب الأمريكي.
وأمر الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن بإجراء مسحٍ شامل ودقيق للسواحل الجنوبية من ولايات الجنوب حتى يتسنى دراستها عسكرياً لتساهم في دعم قادة السفن المحاصرة من الناحية اللوجستية، بسبب افتقار الحكومة الاتحادية حينها لخرائط دقيقة للموانئ والممرات البحرية في الجنوب.
تحرُّك الكونفدراليين دبلوماسياً
في هذه الأثناء تحرك الكونفدراليون دبلوماسياً في أوروبا، فأرسلوا الرسل والمبعوثين لحثهم على الاعتراف دولياً بسيادة الولايات الكونفدرالية المتحدة الأمريكية.
أبتُعث كلٌ من السياسي والسيناتور السابق عن ولاية فرجينيا جيمس موراي ماسون إلى الحكومة البريطانية، فيما تم ابتعاث السياسي والمحامي والسيناتور السابق عن ولاية لويزيانا جون سليديل إلى الحكومة الفرنسية، وتمكن الاثنان من اختراق الحصار المفروض على الجنوب الأمريكي من قبل الاتحاد بحراً، باستخدامهم سفنٍ صغيرة الحجم وسريعة، عُرفت تلك السفن التي نجحت في كسر الحصار والهرب من مدافع المحاصرين إما عن طريق الخروج عن طوق الحصار أو دخوله لمساندة الجنوب باسم متخطي الحصار أو الفارين من الحصار.
شهدت الولايات الحدودية بين الشمال والجنوب معظم الاشتباكات الدامية طيلة الحرب الأهلية الأمريكية، كما شهد البعض منها تقلب سياسييها في قراراتهم وميل البعض منهم وخاصة الذين ظلوا في الاتحاد إلى الانفصال والاشتراك مع الجنوبيين في حربهم على السلطة المركزية في واشنطن.
ومن بين أكثر الولايات الاتحادية مشاغبةً كانت ولاية ميزوري التي انقسم فيها أهلها على بعضهم البعض رغم تصويت سياسييها منذ الأيام الأولى للحرب على بقائهم في الاتحاد الأمريكي، وعدم تسليح أيٍ من الأطراف أو التدخل عسكرياً في النزاع المحتدم.
ولكن رغم من تلك القرارات السياسية إلا أن البعض أصر على الانفصال والانقلاب على الاتحاد، فاعتدى مجموعة من المتعاطفين مع الحكومة الكونفدرالية على مركزٍ حكومي للعتاد في مدينة لبيرتي غرب الولاية، ونهبوا مخزون الأسلحة فيها.
في الوقت ذاته طلب الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن من حاكم الولاية كليبورن فوكس جاكسون المساهمة بتزويد جيوش الاتحاد الأمريكي بعساكرٍ من ولاية ميزوري فرفض جاكسون طلب لينكولن مدعياً إصراره على بقائه وبقاء الولاية على الحياد في النزاع الراهن، إلا أن جاكسون كان متعاطفاً سراً مع الجنوب الأمريكي ومطالبهم السياسية، وأجرى اتصالات سرية مع الجنوب للانقلاب في الوقت المناسب على الاتحاد.
وبأوامرٍ من حاكم ولاية ميزوري تم تدريب مجموعةٌ من المليشيات التابعة للولاية استعداداً لخوض أية معاركٍ مستقبليةٍ ضد قوات الاتحاد، فيما زوّد أهل الجنوب تلك المليشيات بالمؤن والعتاد.
عسكرت قوات جاكسون بعيداً خارج حدود مدينة سانت لويس، وتحسباً لأي ثوراتٍ في ولاية ميزوري وانطلاقاً من رفض جاكسون إرسال فرقة تابعة للولاية للانضمام للجيش الاتحادي، أرسل الاتحاديون فرقة عسكرية للحفاظ على الأمن في الولاية بقيادة ناثانييل ليون، وتمكنت عيون ليون عند وصولهم ولاية ميزوري من رصد معسكر جاكسون، فقرر القائد الاتحادي التأكد بنفسه من صحة تلك الأخبار فذهب خفية بزي امرأة للمعسكر وكشف مخططهم ورصد أيضاً الأسلحة المنقولة إليهم من الجنوب، وخشي من محاولتهم الاعتداء على المراكز الحكومية في ميزوري والاستيلاء على عتادها، فقرر بعد رجوعه لفرقته العسكرية التحرك على الفور وتأديب الثوار.
اقتحمت قوات ناثانييل ليون مخيم جاكسون وتمكنت من أسر المئات من الثوار التابعين لمليشيات ولاية ميزوري، وصُعق الثوار لمشهد ليون وقواته العسكرية تقتحم مخيمهم من دون أي إنذارٍ مسبق، واقتاد القائد الاتحادي بعدها الأسرى على شكل حفلٍ استعراضي مذلولين مدحورين عبر طرق وأزقة مدينة سانت لويس فثار الأهالي لرؤيتهم مشهد أعضاء مليشياتهم مهانين من قبل ليون وفرقته العسكرية فقرروا رميهم بالحجارة، فوقع اقتتال هائل بين عساكر ليون والأهالي وتم إطلاق النار على المتظاهرين فسقط ما يزيد عن 20 قتيلاً من الأهالي ووقعت تلك الحادثة يوم 10 مايو 1861.
وبهذه الحادثة انقلب الرأي العام في ربوع مدينة سانت لويس على الاتحاديين وعُرفت الواقعة باسم حادثة مخيم جاكسون، وعرفها البعض الآخر من الموالين للجنوب باسم مذبحة سانت لويس.
تسارعت الأحداث في الولاية وتحولت المناوشات بين الطرفين إلى معاركٍ دامية، وأدت معركة ويلسون كريك إلى مقتل القائد الاتحادي المندفع ناثانييل ليون، ويُحكى أنه قاتل برفقة قواته حتى آخر رمق، وبنت الحكومة الأمريكية لاحقاً نصباً تذكارياً تخليداً لذكرى ليون قرب إحدى المراكز العسكرية في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري.
رغب الاتحاديون وأنصارهم في إنهاء الاقتتال في أيامٍ معدودة، إلا أنهم صدموا بصرامة وقوة وإصرار الكونفدراليين في تحديهم ومقارعتهم في كافة جبهات الحرب، ولنا أن نرصد مجموعة من أبرز المعارك التي مازال الأمريكيون يتغنون بها إلى اليوم مثل معارك بول ران الأولى والثانية وشيلوه وفيكسبيرغ وحملات تشاتانوغا العسكرية وحملات أتلانتا وكارولاينا وغيرها، ولعل أهم المعارك العسكرية التي خّلدها مؤرخو هذه الحقبة من التاريخ الأمريكي معركة جيتيسبيرغ.
ملحمة جيتيسبيرغ
دامت معركة جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا بين الاتحاد والكونفدراليين 3 أيامٍ ما بين 1 و3 يوليو 1863، وتعد من أعظم معارك الحرب الأهلية الأمريكية وأشدها ضراوة، حيث سقط الآلاف في المعركة واشترك في القتال قرابة 172 ألف جندي، وكانت بداية نكسة الكونفدراليين وتُعتبر أكبر معركة تقع في الأراضي الأمريكية في تاريخ الدولة.
وبجانب هذه المعركة فإن من أبرز الأحداث التي وقعت في العام نفسه، إعلان أبراهام لينكولن لقانون تحرير الرق في ربوع الولايات الأمريكية وحتى الجنوبية منها، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد الأمريكي، وكانت خطوة مهمة وجريئة اهتز لها الجنوبيون ممن خشوا من انقلاب رقيقهم عليهم في الحرب.
جاءت معركة جيتيسبيرغ نتيجةً لرغبة الجنوبيين الزحف شمالاً للاستيلاء على الأراضي التابعة للاتحاد الأمريكي، إلا أن النتيجة جاءت على عكس رغبتهم حيث قلبت المعركة موازين الحرب، وذهب خيرة شباب الجنوب ضحايا هذه الملحمة.
فُتح المجال بُعيد هذه المعركة للاتحاديين في كثيرٍ من المعارك بقيادة الجنرال يوليسيس جرانت للتوغل وقهر القوات الكونفدرالية التي أنهكها الاقتتال والحصار وسلسلة الهزائم المتتالية.
وكان يوليسيس جرانت انتخب فيما بعد وتحديداً عامي 1868 و1872 لمنصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد انتهاء المعركة وأمام الكم الهائل من الجثث الملقاة على الأرض من الطرفين، تقرر بناء مقبرة وطنية لضحايا تلك المعركة من العسكريين، وتخليداً لذكرى الضحايا ألقى لينكولن في نوفمبر 1863 كلمة في موقع المقبرة عُرفت باسم «خطاب جيتيسبيرغ» الذي يعد اليوم من أهم الخطابات في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية نظراً لأهمية محتواه وفصاحته، إذ بّين فيه أهمية التضحية العظيمة التي قدمها أولئك العساكر في سبيل وحدة الصف والمواصلة على نهج مؤسسي الدولة وخطاهم.
حسم الصراع
بعد معركة جيتيسبيرغ الحاسمة أخذت الدائرة تدور على الكونفدراليين، وأصبحت قوات الاتحاد تُصعد من حملاتها لإنهاء الحرب وحسمها بأقرب وقتٍ ممكن.
لم يقوَ الجنوب على الاستمرار في التصدي لهجمات الشمال، فيما خسر العديد من كبار رجالات الجنوب تجارتهم بسبب الحرب، وهرب رقهم من العمل ما أدى إلى انهيار معنوياتهم، أضف إلى ذلك سقوط قادة الجنوب المحنكين منهم في الحرب وإدارة الحرب من قبل قادة ذوي خبرة عسكرية محدودة.
وأتى عام 1865 ليحسم الحرب لصالح الاتحاد الأمريكي مع اختراق الولايات الجنوبية المهمة مثل جورجيا وفرجينيا وتطويق الخناق على أهم معاقل الكونفدراليين، ويبدو أن استراتيجية الهجوم التي اتبعها الكونفدراليون في بداية الحرب جاءت على عكس توقعاتهم.
مع توغل الاتحاديين في الأراضي الجنوبية لم يجد الكونفدراليين خياراً آخر سوى الاستسلام، فأعلن روبرت لي استسلامه وكافة القوات الكونفدرالية يوم 9 أبريل 1865، ليسدل الستار على الحرب الأهلية الأمريكية، التي راح ضحيتها قرابة 620 ألف مواطن وتركت عاهاتٍ مستدامة لدى الكثيرين.
لم يهنأ الاتحاديون لخبر انتصارهم في الحرب طويلاً، حتى فجعوا بخبر مقتل الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن على يد أحد المتعاطفين مع الجنوب ويدعى جون ويلكس بوث 14 أبريل 1865، ويُعتبر اليوم إبراهام لينكولن بحسب الإحصاءات من أفضل الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة الأمريكية حيث ساهمت جهوده في حفظ وحدة تراب الدولة والاتحاد الأمريكي.
الشرطة البحرينية تعزف ألحان الحرب
يصعب حصر الأغاني والأناشيد التي دونت ورُددت فترة الحرب الأهلية الأمريكية، ولم تزل مجموعةً من تلك الأناشيد محفورةً في ذاكرة التراث الأمريكي مثل «عندما يعود جوني إلى الديار» و»هلموا إلى السلاح في ديكسي» و»من أجل محاصيل القطن» و»صرخة معركة الحرية» وغيرها.
كانت هذه الأناشيد تسطر معاناة الجنود الأمريكيين من كلا الطرفين، أو تحثهم على الصبر والقتال أو تحكي حلم بعضهم في العودة إلى ديارهم وأهليهم وذويهم، أو تخبرنا عن الانتصارات التي حققها فريقٌ على الآخر. وفي الغالب ما كانت تستوحى كلمات وألحان هذه الأناشيد من أغانٍ أوروبية وخاصة أيرلندية شهيرة في القرن التاسع عشر للميلاد، والملفت تشابه بعض الأغاني الاتحادية والكونفدرالية في اللحن والإيقاع وحتى الكلمات، فإذا ما نظم أحدٌ من تلك الأطراف المُتناحرة أغنيةً ما شهيرة يقدم الطرف الثاني بإعادة تشكيل كلماتها للرد على الطرف الأول بلحنٍ مشابه للأغنية الأصلية.
أشعلت هذه الأشعار والأناشيد حرباً ثقافيةً بجانب الحملات العسكرية بين الجانبين، فرداً على قصيدة «احملوا السلاح في ديكسي» نظم الموالون لاتحاد الولايات المتحدة الأمريكية قصيدة مماثلةٍ على غرار اللحن المصاحب لقصيدة الكونفدراليين الشهيرة للرد والسخرية على أهل الجنوب في قصيدةٍ عُرفت باسم «اتحاد ديكسي».
يجهل الكثيرون أن فرقة الشرطة البحرينية ومن قديم الزمان كانت تعزف بعضاً من ألحان الحرب الأهلية الأمريكية الشهيرة، فعندما أشرف السير تشارلز بلجريف على تدريب شرطة البحرين بغية عزف الآلات الموسيقية والألحان، كانت من ضمن الألحان التي ذكرها بلجريف في مذكراته أنها كانت تعزف صبيحة الأحد أسبوعياً في المنامة أغنية «بينما كنا نعبر في جورجيا».
كتبت هذه الأنشودة تخليداً لذكرى المعارك التي خاضها القائد الأمريكي الاتحادي الشهير وليام تيكومسيه شيرمان للسيطرة على ولاية جورجيا وتخليصها من قبضة القوات الكونفدرالية عام 1864، في الحملة العسكرية التي عرفت باسم «حملة أتلانتا.»
ويعد شيرمان من أشهر قادة الولايات المتحدة العسكريين في القرن التاسع عشر للميلاد، وعُرف عنه حزمه وحدة آرائه ومظهر وجهه ذو الملامح القاسية والصارمة، وهو من مواليد 8 فبراير 1820، وشارك مع قادة الجيش في العديد من الحروب المهمة في التاريخ الأمريكي قبل اندلاع الحرب الأهلية مثل حروب الدولة على قبائل الهنود الحمر والمكسيك.
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الفرق الموسيقية العسكرية للجيش والشرطة في كافة أنحاء العالم لاتزال تغني مقطوعاتٍ من الحرب الأهلية الأمريكية في المهرجانات والاحتفالات الخاصة والعامة.
كلمة أخيرة
يعتقد البعض أن سبب قيام الحرب الأهلية الأمريكية جاء بسبب مسألة تجارة الرقيق وهذا خطأٌ تاريخي علينا الوقوف عنده وتصحيحه، ورغم من أهمية قضية تجارة الرقيق في الولايات المتحدة إلا أن المحرك الرئيس للاقتتال كان بسبب رغبة مجموعة من الولايات الأمريكية تحديد مصيرها وسن تشريعاتها الخاصة بها بعيداً عن الإدارة الأمريكية، إلى جانب مجموعة أسباب اجتماعية وسياسية أدت إلى إشعال فتيل الحرب والنزاع بين الطرفين.
ورغم خروج الاتحاد مُنتصراً في هذه الحرب، إلا أن الدولة تكبدت خسائر بشرية ومادية جسيمة فذهب قرابة 620 ألف أمريكي ضحيةً لهذا الاقتتال الدموي. كانت الخسائر الأمريكية من كلا الطرفين جسيمة ألا أن الأمريكيين استطاعوا وبسرعةٍ فائقة الاستفادة من الدروس والعبر وتوظيفها لصالحهم، وجاءت معظم الوفيات التي سقطت في الحرب نتيجةً لانتشار الأوبئة والأمراض وعدم الاهتمام بأبسط مبادئ الصحة العامة، إضافة إلى قلة خبرة الأطباء الأمريكيين في توفير الإسعافات الأولية اللازمة للجنود المصابين مما نتج عنه في بعض الأحيان تأزيم لحالة العسكري الجريح ووفاته، في حين إذا ما أتبع الطبيب الإجراءات السليمة والصحية لتمكن من تطبيب المصاب بشكلٍ صحي وسليم. وهذه التجربة في الميدان الصحي نّمت لدى الأمريكيين التعرف على مبادئ الصحة والسلامة، وأعطت أطباءهم خبرةً متينة في المجالين الصحي والطبي ما ساهم في نمو الوعي الصحي محلياً وانخراط العديد من الشباب القادر في مهنة الطب لتتصدر الولايات المتحدة بقية دول العالم في المجال الطبي والصحي.
إن من أبرز نتائج الحرب الأهلية الأمريكية تأسيس جيش نظامي تابع لكيان الدولة على أنقاض مليشيات عسكرية كانت تستخدمها الدولة في حروبها مع جيرانها أو مع الهنود الحمر.
وساهمت الحرب الأهلية في إعطاء القادة العسكريين الأمريكيين خبرةً عسكريةً صلبة تُمكنهم مستقبلاً من بناء جيوش وأساطيل قادرة على خوض أصعب العمليات العسكرية وأكثرها تعقيداً.