تكتسب الكلمة السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي الثالث للمجلس الوطني، أهمية خاصة من حيث التوقيت والمضمون في إطار التحول الديمقراطي الذي تشهده مملكة البحرين منذ نحو عقد من الزمن، حيث تأتي الكلمة السامية، تزامناً مع احتفال المملكة بمرور 10 أعوام على الانتخابات التشريعية الأولى التي شهدتها المملكة في العام 2002، ومنذ ذلك الوقت شهدت السلطة التشريعية في البلاد ثلاثة فصول تشريعية، وهو ما يؤكد انتقال الديمقراطية البحرينية إلى مرحلة الديمقراطية الراسخة التي تتسم بمزيد من الاستقرار السياسي في العلاقات بين السلطات. كما تأتي هذه الكلمة بعد مرحلة مهمة من تاريخ التطور السياسي للبلاد، إثر ما شهدته من أحداث مؤسفة مطلع العام 2011، وما ترتب عليها من حوار التوافق الوطني في صيف 2011، ثم تشكيل اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، انتهاءً بإجراء التعديلات الدستورية الأهم حتى الآن، والاعتراف الدولي باحترام المملكة التزاماتها الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان من خلال مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف.
أما بالنسبة للمواضيع والقضايا التي تناولتها الكلمة السامية للعاهل، فإنها كانت مركزة ومواكبة لأهم المستجدات على الصعيد المحلي والإقليمي وحتى الدولي. الكلمة السامية استهلت مضامينها بالتأكيد على الدور المهم الذي تضطلع به السلطة التشريعية مع بداية دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي الثالث، ولذلك دعا العاهل المفدى أعضاء مجلسي النواب والشورى إلى “تلمّس كافة القضايا والموضوعات التي تهم الوطن والمواطن ومناقشتها ووضعها موضع التشريع والقانون، إسهاماً فيما نسعى إليه جميعاً لبناء نهضة وتقدم بلدنا الحبيب البحرين وتحقيق الحياة الكريمة الآمنة لكل مواطن”.
وتناولت الكلمة السامية تقييماً للأوضاع السياسية المحلية، بدءاً بتضامن العاهل مع ما تعانيه البلاد وشعبها الآمن المسالم من “أسى وأذى” بسبب ممارسات الفئة المضللة التي تسعى لتشويه صورة البحرين في الخارج، وتحاول الاستقواء بالخارج للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، مؤكداً الرفض التام بكل حزم لأي تدخل خارجي في الشأن المحلي، ورفض التصعيد الأمني من الفئة المضللة. مشدداً على مسؤولية الدولة في حماية المواطنين والمقيمين والمكتسبات الوطنية.
كما بعث العاهل رسالة سياسية مهمة عندما قال جلالته: “لم يخطر على بالنا أن تستغل الديمقراطية لتحقيق المطالب بالعنف والإرهاب، ولذلك فإننا نؤكد دائماً بأن المطالب لا تؤخذ بالقوة والعنف بل تؤخذ بالحوار والتوافق الوطني كما حصل سابقاً بين أطياف مجتمعنا، وأنه لا ينبغي أن تفرض فئة رأيها على الآخرين”. هذه الرسالة تشمل العديد من المضامين السياسية اللافتة، فهي تؤكد على المبادئ الآتية: أولاً: عدم جدوى استغلال الديمقراطية لتحقيق المطالب بالعنف والإرهاب، فالديمقراطية تحتوي كافة المطالب مهما كانت في إطار من الحوار والتوافق العام. ثانياً: لا يمكن اللجوء إلى القوة والعنف لتحقيق المطالب، لأن القوة لا مكان لها في نظام ديمقراطي قادر على احتواء المطالب وتجميعها، بل وتنفيذها باعتبار الديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية الجامعة. ثالثاً: عدم جدوى الاستئثار بالرأي والمطالب وإقصاء الآخر، ففي مجتمع البحرين التعددي لا يمكن الاستئثار بالآراء والمطالب نهائياً، بل يجب أن تحظى مثل هذه المطالب بالتوافق بين مختلف مكونات المجتمع بما يضمن احترام وحماية مصالح كافة المكونات وآرائها. انطلاقاً من هذه المبادئ المهمة، دعا العاهل أعضاء السلطة التشريعية إلى النظر في سنّ التشريعات اللازمة لتجريم كل ما يمس الوحدة الوطنية وأمن المجتمع وبكل حزم، فلا يمكن المساومة على الأمن الوطني مهما كانت المطالب أو المبررات. وبعيداً عن القضايا السياسية، حدَّد جلالة الملك رؤيته لإطار عمل المجلس الوطني خلال الفترة المقبلة بالإشارة إلى ضرورة تقاطع خطط التنمية الشاملة والموضوعات الحيوية التي تمس الحياة اليومية للمواطن، وحماية الأمن والاستقرار في البلاد، ومواصلة تطوير الاقتصاد والتنمية الشاملة، وتنويع مصادر الدخل الوطني، وتحسين الأداء والإنتاجية، والعمل مع الدولة في رعاية الشباب.
وانتقلت الكلمة السامية لتشيد بنجاح سير تنفيذ مرئيات حوار التوافق الوطني نظراً لأهميتها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي المرئيات التي وصفها العاهل بأنها “رغبة وطنية لبدء مرحلة جديدة لتقدم هذا الوطن الغالي ودفعه إلى المكانة التي يستحقها بكل جدارة بين الأمم والشعوب”. كما نالت مرئيات حوار التوافق الوطني، حيّزاً بالغاً من جهود الحكومة ومجلسي النواب والشورى خلال الفترة الماضية لتنفيذها على شكل تشريعات وطنية، وكذلك سياسات عامة من قبل السلطة التنفيذية. وهي مرئيات بقي منها القليل قيد التنفيذ بسبب ما تتطلبه من وقت للانتهاء من إعداد التشريعات اللازمة لها.
وتناولت الكلمة السامية نجاح مملكة البحرين في اعتماد منظمة الأمم المتحدة مؤخراً لتقرير المملكة في مجال حقوق الإنسان، وتنفيذها للتوصيات المقدمة من الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان الدولي بجنيف، وكذلك فوزها بعضوية اللجنة الاستشارية بمجلس حقوق الإنسان. وهذا النجاح يأتي تأكيداً لثقة المجتمع الدولي في قدرة المملكة علـى الوفاء بالتزاماتها الدولية.
ويرتبط بهذا النجاح الحقوقي الاستمرار في تنفيذ المتبقي من توصيات تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق التي شكلت نهاية العام 2011. حيث أكد جلالة الملك أهمية الحوار الوطني لمعالجة التحديات الراهنة داخلياً بين الأطراف كافة، حيث قال جلالته: “باب الحوار مفتوح للجميع، بما يحقق الانسجام التام لمجتمعنا ويوحد الجهود للبناء على ما حققته البحرين من إنجازات”.
وانتقل جلالة الملك في الكلمة السامية ليعرض ملامح الوضع الإقليمي والدولي، بالتأكيد على العمق الخليجي للبحرين، وهو عمق لا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاهله لارتباطه بهوية المملكة من منظور الجغرافيا السياسية، حيث أوضح: “في عصر يتسم بالأزمات والمتغيرات السريعة المتلاحقة سواء كانت سياسية أو اقتصادية تمتد آثارها وتداعياتها على مستوى العالم كله، فإن منطقتنا الخليجية قد مرَّت عبر العقود الثلاثة الماضية بالعديد من التحديات التي واجهناها بصلابة، وبمواقف موحدة يجسدها الدور الرائد الذي يضطلع به مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي نسعى - وبعون الله وتوفيقه - بأن يصبح أكثر وحدة بين دوله الشقيقة”.