كتب ـ موسى حوامدة:
يقول سامي مهدي في كتابه (أرتور رامبو الحقيقة والأسطورة) «رامبو في نهاية الأمر شاعر يمكن أن يدرس، وأن ينقد شعره، مثل غيره من الشعراء، وليس معبوداً مقدساً يتسامى على الدرس والنقد»، لكن مهدي رغم تقديري له شاعراً وناقداً وكاتباً ومترجماً، آثر أن يطبق عمله، ونقده الاحترافي ضد شاعر فرنسي، وليس ضد شاعر عربي، فألف كتاباً قرأته واستمتعت به منذ صدوره عن دار دجلة في عمان.
الكتاب محاولة نقدية جيدة لتنقية شعر رامبو من هالته الأسطورية، وهذا عمل نقدي مبرر، بل هو من صميم العمل النقدي، وهو ما تحتاجه الساحة الثقافية العربية، لكن الصديق العزيز مهدي، استكثر أن يُشير ولو من بعيد، إلى نقل محمود درويش مقاطع حرفية كاملة من التوراة، ولم يجد في ذلك غضاضة، رغم أن النقل خالف أبسط قواعد الاقتباس أو التضمين، فالنقل أو الأخذ جاء في متن القصيدة، نقلاً حرفياً لمقاطع كثيرة من سفر الجامعة، والتوراة ليست كتاباً مقروءاً في عالم عربي لا يقرأ أصلاً.
كان ذلك رداً على مقالتي المنشورة في هذه الزاوية أبريل الماضي، ورغم أن رد مهدي جاء بعد 5 أشهر، مدافعاً عن درويش، معتبراً أن ذلك عمل جائز، قمت بنشره على الفور، ولم أفكر للحظة بالاعتذار، فهذا من حق مهدي، وليس من حقي على الإطلاق أن أمنع وجهة نظر تعارض ما كتبت، فمن حقنا أن نختلف، والاختلاف ضروري وصحي، ولكن ليس من حقنا أن نكيل بمكيالين في تطبيقاتنا النقدية، فندافع عن نصوص شعرية لشاعر عربي جماهيري، بينما نذهب بعيداً في نقد شاعر غربي، بل إن الدرس الذي يعلمه كتاب مهدي عن رامبو ألاَّ نصدِّق الأسطورة، وأن نشك في كل شيء نقرؤه.
من جهة ثانية أثارت مقالتي تلك ردوداً ما زالت تتواصل، حول نقل درويش من التوراة، وهذا شيء متوقع وليس غريباً، لكن الغريب اعتبار هذا النقل جائزاً أو تناصاً، وتعلمنا أن التناص شيء والتضمين والسرقة شيء مختلف، وما نقله درويش لا يمكن أن يحسب تناصاً، بل نقل حرفي، أما المثال الذي أورده مهدي حول رباعية إليوت فهي واضحة لدى القارئ الغربي، باعتبار العهد القديم جزءاً من تراثه وديانته، واستخدمت عبارة «للحب وقت وللحرب وقت» كثيراً في الغرب، حتى أن الكاتب الألماني اليهودي إريش ماريا ريمارك وضعها عنواناً لإحدى رواياته، فهي متداولة هناك حد الاستهلاك، لكن قلة من العرب من يعرفون أن المقاطع الحرفية التي أوردها درويش في الجدارية من التوراة كاملة.
لا أريد أن أناقش مهدي في كل نقطة أوردها، ولم أتدخل في سجاله مع الأستاذ أحمد أشقر حول الموضوع، لكن الغريب أن الدكتور زياد الزعبي وخلال محاضرته في رابطة الكتاب قبل أيام تطرق للموضوع، وألقى محاضرة بعنوان «قراءة النص في ضوء مرجعياته التاريخية» حاول أن يمهد بمقدمة ونماذج للمعري وأمل دنقل باعتبارها تناصاً مقبولاً، ليوزع على الجمهور صفحات مما نقله درويش حرفياً عن التوراة ثم يقول إن ذلك تناص فأي منطق هذا؟.
ومع احترامي للأستاذ مهدي والزعبي، وهما صديقان أقدرهما، فإن هناك فرقاً هائلاً وكبيراً بين التناص والنقل الحرفي، حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، وأما القول إن النصوص التوراتية معروفة، لماذا كان درويش يضع النصوص القرآنية بين قوسين، ولم يضع ما نقله حرفياً عن التوراة بين قوسين؟.
أعرف أن شهرة درويش ومحبيه الكثر، ومكانته الشعرية عربياً ومكانته السياسية والشعرية فلسطينياً، لا تجعل الناقد حراً في نقده، ويجد نفسه محرجاً، ولكن ما هي قيمة النقد إن كان يتعامل مع النصوص حسب كتابها ومؤلفيها؟ وليس حسب النص نفسه، بغض النظر عن قائله، وإذا كان البعض صدم أو فوجئ بأن درويش أخذ من الآخرين، ماذا يقول مهدي والدكتور زياد عن عبارة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» بعد أن أصبحت شعاراً عربياً لدرويش، بينما هي منقولة نقلاً حرفياً عن فرديريك نيشته، ديوان فريدريك نيتشه ترجمة محمد بن صالح منشورات الجمل. ففي فصل أغنية للشرب، يقول نيتشه «على هذه الأرض ما يستحق الحياة، يوم واحد قضيته مع زرادشت علمني أن أحب الأرض» ص 244.
هل يمكن أيضاً اعتبار هذه العبارة تناصاً؟ لا أستغرب أن يطلع اليوم من يقول إن الناس تعرف أن العبارة لنيتشه أيضاً، أو ربما يتوهم البعض أن نيتشه هو من أخذها عن درويش.
لا أقصد التقليل من درويش ومن مكانته، لكني أريد أن أرى عيوبه وأخطاءه أيضاً، وأرى جمالياته وبراعته، فهو ليس إلهاً ونصوصه لم تصل بعد إلى مرتبة القدسية، وكان نفسه ضد التقديس المطلق؟ حيث قال «يا شرعية البوليس والقديس، إذْ يتبادلان الإسم، إذْ يتناوبان عليك، يمتزجان، يتحدان، ينقسمان مملكتين، يقتتلان فيك».