كتب - أمين صالح:المخرج الإسباني لويس بونويل يصور أفلامه في هدوء وصفاء وثقة.. يقول: “أضع الممثلين أمام الكاميرا وأتابعهم في الموقع قدر استطاعتي. وعندما لا أعود أعرف ما ينبغي فعله، أتوقف وأغيّر زاوية التصوير”.لكن هل يستمتع بونويل بتصوير الفيلم؟.. يرد قائلاً:«لا. أبداً. أكره ذلك. أكره حالة الفوضى والتشوّش في الموقع أثناء التصوير. أكره الضجيج. لا أستطيع احتمال الإصغاء إلى أكثر من شخص واحد يتحدث إليّ، في الوقت نفسه. أكره إصدار الأوامر”. (مجلة نيويورك تايمز، 11 مارس 1973)مع ذلك، يُقال أن بونويل وهتشكوك هما الأسرع والأكثر دقةً والأكثر ثقةً بما يفعلان من بين جميع المخرجين السينمائيين. يقول بونويل: “أنا أحضّر واجبي وأحل فروضي في المنزل. قبل حلول اليوم الأول من التصوير في الموقع، أكون عارفاً تماماً وبدقة كيفية تصوير كل مشهد، وكيف سيكون المونتاج النهائي. لقد تعلمت كل حيل التصوير في ظرف أسبوعين في المكسيك. بمقدوري أن أتولى مونتاج الفيلم في يومين. ذلك يتيح لذهني حرية الارتجال أثناء التصوير، ويراقب بعناية الجو العام والتفاصيل الدقيقة التي تحوم فوق وأسفل عملية التصوير الفعلية”.في حديث لرفيق بونويل في كتابة السيناريو جان كلود كارييه ( Show, April 1970) يقول: “اعتاد بونويل أن يصل إلى الموقع دون أن يعرف بالضبط أين سيضع الكاميرا. هو أبداً لا يحضّر سيناريو التصوير. إنه يتطلع حواليه في الموقع على نحو وجيز، وبسرعة يتخذ قراره. هو عادة يختار الحل الأبسط، أو أحياناً يختار الأيسر. إنه ينظم الممثلين والمجاميع بعناية شديدة، لكنه لا يقلق كثيراً بشأن تفاصيل الخلفية. إنه ينظر كثيراً من خلال الكاميرا محاولاً التيقن من صلاحية المنظور. وهو لا يعطي الممثلين أي توجيه، بل يضعهم في الأماكن الملائمة ويصحح لهم فيما يؤدون. وهو يعطي المصور توجيهات بسيطة، لكن دقيقة جداً”. في الموقع، يخلق بونويل اتصالاً مباشراً مع الممثلين والفنيين. ثمة إحساس عميق بالتناغم، حميمية، احترام متبادل عميق، دعابة، وشعور بالبهجة. والمعروف عنه أنه منظم جداً، مقتصد جداً، ملتزم بمواعيد التصوير. وهو يعمل على نحو سريع، ويصور بسرعة بالغة، إذ نادراً ما يحتاج إلى أكثر من إعادتين أو ثلاث للقطات.. “وإلا فإنني أشعر بالضجر”.. كما يقول. وهو يترك مساحة كبيرة للارتجال، خصوصاً في ترك الممثل يعالج شخصيته ويملأ الفراغات.عن علاقته بالممثلين، يقول بونويل:«أنا أنسجم بشكل جيد مع الممثلين، لكنني أعتقد أنهم لا ينسجمون جيداً معي”.«في البداية، بسبب قلة الإمكانيات المادية، استخدمت العديد من الممثلين الهواة، بالإضافة إلى مساهمات الأصدقاء”. بونويل، عبر أفلامه، يحاول أن يصدم المتفرج، أن يفاجئه، يربكه، يقلقه، يزعجه، لا أن يسليه أو يرفّه عنه أو يجيب على أسئلته. إنه يخرّب باستمرار توقعات المتفرج. مع أنه يصرّح قائلاً: “ لا أحاول أبداً أن أصدم الناس، لكنهم أحياناً يصدمون أنفسهم”. وفي موضع آخر، يقول: “شخصياً أحب أن أستمر في تحقيق أفلام والتي، بصرف النظر عن تسلية الجمهور، تنقل إلى الناس اليقين المطلق بأننا لا نعيش في أفضل العوالم الممكنة. عبر أفلام كهذه أعتقد بأن أهدافي ستكون بنّاءة جداً. كيف يمكن أن نأمل بتحسين مفاهيم الجمهور ما دامت الأفلام تخبرنا أن مؤسساتنا الاجتماعية ومفاهيمنا، عن الوطن والحب وغير ذلك، هي استثنائية وضرورية، في حين أنها ناقصة؟ الامتثالية هي أفيون الجمهور” (Film Culture, Spring 1962) بونويل من المخرجين القلائل الذين يحققون أفلامهم لإرضاء وإشباع أنفسهم. يقول: “أنا لا أحقق أفلاماً للجمهور العام. إذا كان هذا الجمهور تقليدياً، محافظاً، ضيّق الأفق، ومضللاً، فذلك ليس ذنبه بل ذنب المجتمع. من الصعب جداً، ولا يحدث إلا نادراً، أن يتمكن مخرج من تحقيق فيلم يرضي الجمهور، إضافة إلى أصدقائه وأولئك الذين يقدّر أراءهم وحكمهم”. عن تأثير السينما، يقول (1953): “الفيلم يؤثر بشكل مباشر على المتفرج، إذ يقدّم له شخصيات وأشياء مادية. في سكون وعتمة الصالة يبدأ الفيلم في عزل المتفرج عما يمكن تسميته بجوّه النفسي المألوف. السينما قادرة على إثارة المتفرج ووضعه في حالة من النشوة على نحو فعال أكثر من أي شكل آخر من أشكال التجربة الإنسانية، لكنها أيضاً قادرة – أكثر من أي شكل آخر – على إفساده وتخديره. ويبدو أن أغلب الأفلام الراهنة لا تؤدي سوى هذه المهمة: الإفساد والتخدير. الشاشات تقدم كل يوم برهاناً على الخواء الفكري والأخلاقي الذي تتمرّغ فيه السينما. المتفرج عبر هذا النوع من الكبح التنويمي، يفقد نسبة كبيرة من طاقته الفكرية أو النقدية”.ويقول أيضاً في المقالة ذاتها:«إن شخصاً متوسط الثقافة سوف يقذف بازدراء أي كتاب يحتوي على أحد المواضيع التي تتحدث عنها أفلامنا، غير أن هذا الشخص، الجالس بشكل مريح في صالة معتمة، منبهراً بالضوء والحركة التي تمارس عليه سلطة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، مسحوراً بالوجوه البشرية والتغيرات السريعة للمكان، هذا الشخص سوف يقبل، برباطة جأش، موضوع الفيلم أو أفكاره مهما كانت تافهة ومبتذلة”.