أكد علماء وشيوخ دين أن “خطبة الوداع التي ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف عرفة في حجة الوداع أرست قواعد الإسلام وهدمت مبادئ الجاهلية، وعظمت حرمات المسلمين”، موضحين أن “الرسول الكريم شدد على قضايا رئيسة كبرى لعل أبرزها التوحيد الخالص لله، والقضاء على التمييز العنصري، والنعرات المذهبية”.
وأضافوا أن “الرسول أوصى في خطبة الوداع بالنساء خيراً”، مؤكدين أن “الإسلام كرم المرأة، كما عظم الرسول حرمات المسلم بقوله: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”“.
وأوضحوا أن “الرسول الكريم حذر في خطبته الأخيرة المسلمين من الخلافات المذمومة والتنازع والفتن والانقسام إلى شيع وأحزاب”، فيما دعا إلى “الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله”. ودعاهم إلى الوحدة، قائلاً “لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض”“.
وصايا موجزة
من جهته، قال الرئيس بالمحكمة الكبرى الشرعية السنية الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن ضرار الشاعر إن “النبي محمد صلى الله عليه وسلم خطب خطبة في موقف عرفة اشتهرت بخطبة الوداع، أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظم حرمات المسلمين. وخطب الناس وودعهم، بعد أن استقر التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله تعالى هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
وأضاف د. الشاعر “ألقى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كلمات موجزة، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين، فثبت في نفوس المسلمين أصول الديانة، وقواعد الشريعة، ونبَه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى”، مضيفاً “أن الرسول الكريم أرسى قضايا عديدة هي:
^ القضية الأولى: التوحيد الخالص: إن أول شيء أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن أمر الجاهلية “الشرك بالله”، فلقد جاء بكلمة التوحيد “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” شعار الإسلام، وعلم الملَة، كلمة تخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة، فالله تعالى هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرزاق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وطريقه، (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم، هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، سبحانه وتعالى عمَا يشركون).
^ القضية الثانية: القضاء على التمييز العنصري: لقد ألغى نبينا محمد كلَ ألوان التمييز العنصري، وذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فالناس متساوون في التكاليف، حقوقاً وواجبات، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الطائفية ضرب من الإفك والدَجل. ويأتي نبينا محمد لينبَه الناس إلى تجنب ضلال المسلك العصبي والطائفي والقبلي، ويعلن في ذلك المشهد العظيم: (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى).
^ القضية الثالثة: قضية المرأة: كأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم.
إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازدرتها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لا بدَ منه، وفي أمم التقدم المعاصر أسفت بها في شهواتها إلى مدى منحط، وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدة لكل الآثام. وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة حقوق المرأة، وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي نصف المجتمع، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة.
والإسلام أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكل نصيبه: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن)، في مسلك وسط ومنهج عدل، فالنساء شقائق الرجال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، وفي التوجيه النبوي: “فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”، و«رفقاً بالقوارير”.
^ القضية الرابعة: قضية الإنسان: القضية التي قررها رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم هي قضية حقوق الإنسان، فقد نادى بحقوق الإنسان، وأنه لابدَ أن يكون محترماً له مكانته بين الناس.
وإذا كان هذا الإنسان مسلماً ازدادت حرمته، وتأكدت حقوقه “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”، وينظر النبي إلى الكعبة ويقول: “ما أعظمك وما أشد حرمتك، والذي نفسي بيده، للمؤمن أشدُ حرمةً عند الله منك”.
^ القضية الخامسة: وحدة الأمة: ثمة وقفة نبوية في هذا المشهد التوديعي المهيب، إنها قضية وحدة الأمة، وقضية الخلاف المذموم، يوقف فيها الرسول أمته على أمر حاسم وموقف جازم: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به، كتاب الله، وسنتي”، وقال: “لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض”، إنه تحذير رباني من الرؤوف الرحيم للأمة الإسلامية من فناء ذريع، إن هي استسلمت للخلاف، واسترسلت في الغفلة عن سنن الله، والجهل بما يحيكه الشيطان من مؤامرات. إنها وصايا أودعها النبي صلى الله عليه وسلم ضمائر الناس، لا تتضمن قضايا فلسفية، ولا نظريات خيالية، مبادئ بسطها النبي في كلمات سهلة سائغة، وإنها على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانة لا واقع لها، ذلك أن قائلها وواصفها نبينا محمد عامر الذي كان عامر الفؤاد بحب الناس، والحرص عليهم، والرأفة بهم.
وخلص د. الشاعر إلى أنه “ما أحوج الأمة اليوم إلى مثل هذه الدروس النبوية الرَائعة، أما تتكرر الرُوح التي سادت حجة الوداع، لكي تتشبع هذه الكثرة العددية للمسلمين اليوم بكثافة نوعية وطاقات روحية؟ أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم، تمحو فرقتهم، وتسوي صفوفهم، وترد مهابتهم؟ فهذه هي خطبة حجة الوداع وبعض قضاياها العظيمة”.
طاعة الله ورسوله
من جانبه، قال الشيخ زياد السعدون إن “يوم عرفة يوم عظيم يذكرنا بموقف من أروع المواقف في تاريخ الإسلام، ذلك الموقف هو موقف الرسول صلي الله عليه وسلم حيث خطب فيهم خطبته العظيمة التي بين فيها أصول الإسلام وقواعد الدين. وقضى على عادات الجاهلية، ومن أهم الدروس المستفادة”:
^ أولاً: حرمة الدماء والأموال والأعراض من قوله “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا” اللهم بلغت؟”.
وحق الحياة لكل إنسان هو حق مقدس وله أن يتمتع بهذا الحق، لا يحل انتهاك حرمته. وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ)، والحق الذي تزهق به النفوس هو ما فسره الرسول فيما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث” الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”.
وحرص الإسلام على حماية النفوس من القتل حيث توعد قاتل النفس بأشد عقوبة، يقول الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)، وقال صلي الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق”.
^ ثانياً حرمة المال: فالمال مال الله والإنسان خليفة الله في هذا المال، ولا يحل لأحد أن يأخذ منه إلا عن طيب نفس صاحبه، لذلك شدد الإسلام عقوبة السرقة، يقول تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
^ ثالثاً: حرمة الربا يقول النبي في هذه الخطبة: “ألا إن كل ربا موضوع”، ويقول أيضاً “لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه”.
^ رابعاً: وضع الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين، وحدد حقوق كل منهما على الآخر وصدق الله إذ يقول (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وصور الصلة بينهما بقوله (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ).
وسمى العقد المبرم بينهما ميثاقاً غليظاً قال تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً).
فالزوجة سكن للزوج وحرث له، وهى شريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، وهى أهم أركان الأسرة وهى مسؤولة معه عن الأسرة وجاء في حديث “كلكم راع”، “والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها”.
^ خامساً: مبدأ المساواة، تبنى الإسلام المساواة بين الناس حيث قال: “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد وكلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” فالإسلام رسالة عالية جاءت لخير الأمم والشعوب جميعاً لا فرق بين عربي وأعجمي”، ودعا إلى القضاء على الفوارق بين المسلمين، وأعلن الأخوة الإسلامية، لا تفاضل بينهم إلا على أساس التقوى والعمل الصالح.
^ سادساً: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله فقد نهى عن التفرق والتنازع والاختلاف وحذر من الفتن والانقسام إلى شيع وأحزاب، فالإسلام يدعو إلى الوحدة، ويحرم الخلاف والفرقة التي تضعف المسلمين. وخلص الشيخ السعدون إلى أن “هذه بعض الدروس المستفادة من خطبة الرسول في حجة الوداع في يوم عرفة، وعلينا أن نستجيب عملاً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وعملاً بقول رسوله “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقيل ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى”“.