كتب - علي فردان محمد فردان:
يُشكّل الحكم لدى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى فلسفة أخلاقية في جوهرها والنضوج فيها يأتي تدريجياً وتستند إلى الفضيلة والمحاسن التي تغرس في نفوس الشعب البحريني بمختلف مكوناته كل التشجيع لمكافحة نوازع الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من سلوكياته، وعبر حالتيه (الإيجابية والسلبية) ومن منطلق الفكر الواعي وبقوة اليد واللسان.
وهذا ما تؤكده النظرية التي تقول إن الأخلاق فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في القول وسلوك في العمل، أي أن فلسفة أركان الحكم لدى عاهل البلاد المفدى من حيث الأساس تستند إلى عدة غايات، وهي بهذا المعنى تحارب (الوصولية والانتهازية) في شتى صورها ومختلف مجالاتها.
أما السير وفق المُثل الأخلاقية ووحدة الوسائل في نوعها ومداها بين الحكومة والشعب من حيث حقوق الأفراد وواجباتهم العامة وهو الجانب الأساسي لفلسفة أركان الحكم عند عاهل البلاد المفدى وهو جانب يتجلى بأروع أشكاله إذا ما وضعنا في الاعتبار بأن السياسة ترتبط دوماً من حيث الصلة بين جوانبها النظرية والتطبيقية بأذهان الكثير من الناس وببعدها عن مستويات الأخلاق الرفيعة، والسبب في ذلك على ما يبدو هو أن الساسة يفعلون نقيض ما يقولون، وهو ما نلحظه أن أبرز صفات السياسي الناجح تكون في انتفائه إلى أي مذهب لديه ووجوده، لأن اعتناقه أي مذهب معين والسير وفق مستلزماته لا يتفق مع المصلحة السياسية، مثله كمثل الماء حينما يوضع في الإناء تراه يتكيف حسب حجمه الطبيعي.
ومن مبادئ الإسلام وقيمه السامية وصفاتها العليا والتي عاهد بها جلالة الملك، هي عقد العقيدة قولاً وفعلاً في ميدان الإدارة العامة مع كبار رموز الشعب منذ بداية حكمه وذلك لتعميق الصلة وبغية التعاون لحلحلة كل القضايا من مختلف زواياها وبما تصب في مصلحة الشعب وهمومه.
أما الجانب الاقتصادي (المالي) في فلسفة أركان الحكم لدى صاحب جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ، فهو السير على النهج الذي ذكرناه في مجال الثروة والخدمات العامة من حيث الإنتاج والتداول والاستهلاك، وما يتصل بذلك من روابط اجتماعية في الحالتين السلبية والإيجابية بين أفراد الشعب سواء كان ذلك منفرداً أو مجتمعاً أو بين الحكومة من جهة أخرى.
وفي ضوء ما ذُكر نستطيع القول إن جلالة الملك المفدى سعى قُدماً من خلال تصرفاته الخاصة والعامة والتزاماً بالعقيدة قولاً وفعلاً مع أنصاره ومعارضيه وخصومه، بقصد تهيئة الظروف المناخية الاجتماعية الملائمة لنمو الفضيلة الإنسانية وازدهارها في شتى ميادين الحياة البحرينية سواءً حاكمية أو محكومية.
الالتزام بالوعود قولاً وعملاً
إن مقياس نجاح الحكم لدى العاهل ليس البقاء في دفة الحكم، والتخلص من المناوئين والمعارضين والخصوم أو استمالة الناس بالقيم الفاسدة مثل الضغط والتخويف أو الرشوة والملاينة، ولا بالقيام بالإصلاحات الجانبية العريضة على حساب هدم الإطار العام للإصلاح الاجتماعي الشامل أو تحويل اتجاه سير الخط الواضح بتضليل الناس وإلهائهم عن مراقبة ومحاسبة المهيمنين عليه، لأن الحاكم العادل لا يُقاس إلا بمدى التزامه بوعوده قولاً وعملاً، وبمدى تصرفاته الخاصة والعامة مع عموم الناس سواءً أنصاراً أو خصوماً أو بما يسمى معارضين على حد سواء، فهذا هو المبدأ النبيل الذي سعى إليه عاهل البلاد المفدى لأن يبلغ ذروته.
نعم إن مقياس نجاح الحاكم في الحكم لا يُقاس إلا بمدى الوعي الذي يثيره في رعيته لتفهم طبيعة مشاكلهم الاجتماعية التي يعيشون معها وفيها والحث والتحفيز والمساهمة الإيجابية المباشرة وغير المباشرة لعلاجها والتخلص منها بالأساليب الناجحة السليمة، وضمن إطار المصلحة العامة للسير بالرعية نحو تحقيق طريق العدالة الاجتماعية في شتى مناحي حياتهم، ولقد تفاجأ البريطانيون والإيرانيون ومعهم الأمريكان أيضاً بالمنهجية التي انتهجتها سياسة شخصية عاهل البلاد المفدى في بناء أركان الدولة الحديثة أي دولة (المؤسسات والقانون) مما دفعهم بالاعتراف على أنفسهم بالعجز التام أمام الدور الكبير الذي لعبته الدبلوماسية البحرينية في معالجة ما ارتكبته أيديهم في حق البحرين وشعبها.
وبعد تسلم العاهل المفدى لمقاليد الحكم في البلاد، كانت هناك خطوط وتحديات وضغوط صعبة خاصة أثناء السنوات العشر الأولى منها ، مما يجعل للقارئ الذهاب بالتفكير بأن هناك أوجه تشابه بين سيرة حكم والده الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (رحمه الله) وطبيعة الأشخاص ومشاكلهم والظروف السياسية التي تعرض لها آنذاك، وهي التي فطنها وأدركها عاهل البلاد المفدى حيث أوجز خطوط تلك السيرتين ومواقع التشابه بينهما مستثمراً للمتغيرات والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكل الملابسات التي أحاطت كلتا الفترتين.
وهذا يؤكد أنه لا فرق في قراءة تلك السيرتين، بين سيرة الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وسياسة فترة حكمه وما أحاط بها من ظروف سياسية واجتماعية في أيام حياته (رحمه الله)، وبين سيرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة وسياسته وما أحاط بها من متغيرات اقتصادية واجتماعية أعطت بالمفهوم العام أن أمر الحكم عند صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة مازال مستمراً في نهجه الإصلاحي والتطويري، وإن كان في بعض الأحيان مضطرباً بسبب تدخل بعض الدول الخارجية في شؤون البحرين من جهة كبريطانيا وإيران وأمريكا من جهة وثلة بما يسمى بهم (المعارضين) من جهة أخرى، كما كان لحكم والده المغفور له الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في زمان حكمه.
ومن يتأمل الظروف والأوضاع للمرحلتين يجدهما في أوجه التشابه في بعض أحداثها أو حتى في أكثرها، وذلك لأن حكم الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (رحمه الله)، جاء مع استقلال البحرين وخروج الاستعمار البريطاني، وجاء مع وضع الاستفتاء الشعبي على عروبة البحرين، (أي بين أن يحكم البحرين آل خليفة وبين أن يحكمها شاه إيران) فكانت تلك المرحلة مرحلة مفصلية سجلت سجالاً كبيراً، إلا أنها في نهاية المطاف انتهت بانتصار شعب البحرين الوفي بأن يبقى الحكم لآل خليفة وتحولت البحرين إلى دولة مستقلة، مما جعل لبريطانيا وإيران أن تتأهبان حتى تتغير الظروف السياسة والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة كي يحصلا على ما لم يحصلا عليه وقت الاستفتاء، بعد أن نالت البحرين عروبة حكمها، استمر الشقيقان صاحب السمو الأمير الشيخ عيسى ببن سلمان آل خليفة وأخيه صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة معاً عازمين بالجهد في بناء وتطوير البحرين وحماية شعبها من أي مؤامرات ومناوآت ودساس سياسية.
وهكذا كانت أوضاع البحرين في بداية حكم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، تحمل نفس المتغيرات، حيث كانت تعيش حالة من الصراع السياسي المدعوم من الخارج، والتشابه العجيب أن أول خطوات الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (رحمه الله) في حكمه بعد الاستفتاء كان إعلان تأسيس المجلس الوطني سنة 1975م وإحياء الحياة الديمقراطية في البحرين، وكذلك كانت أول خطوات صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة في توليه الحكم، وقيامه بالاستفتاء على الميثاق الوطني الذي صادق عليه الشعب بنسبة 98.4%، وتفعيل الحياة الديمقراطية في وسط الشعب البحريني والقيام بالقضاء على سياسة أمن الدولة التي زرعتها بريطانيا.
فمنذ تولي عاهل البلاد المفدى، وهو يبذل كل الجهد لينقذ شعب البحرين من حضيض التخلف والانطلاق بهم نحو التقدم وبمستوياته الرفيعة، فعلى رغم كل الجهود التي بذلها في هذا السبيل، إلا أنه بقي الكثير من الناس سواء ممن كانوا في الداخل أو الخارج يشككون في نجاح توجهه السديد وما له من خير على مصلحة البلاد والعباد.
إن بعض السلوكيات والقناعات غير الصائبة وغير القائمة على التعقل والنظرة الحكيمة المنبثقة من كتاب الله وتعاليم أحكام الشريعة شكلت سداً منيعاً لدى البعض من الناس، بحيث أنهم شككوا في المصداقية التي يكنها صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، للنهوض بمشروعه الإصلاحي الجديد، مما وصل الحال إلى حد المجابهة والمحاربة وبمنتهى العنف والخشونة، ومدعوماً ببعض المنتفعين من الخارج، أما البعض الآخر فأخذ بالاندساس بين الأحداث لتحريك مصالحه ونواياه.
غير أن العاهل المفدى مع هذا كله، نجح قبل نهاية العشر السنوات من حكمه في تثبيت مشروعه الإصلاحي والذي استمد أطروحاته العلمية والعملية من القرآن المجيد والسيرة النبوية الخالدة، فمضى على إثر وعيه وفكره ماضياً في هذا السبيل، وهنا نطرح سؤالاً بديهياً؟ وهو ما الذي حال بين صاحب السمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وبين انتشار نهجه القويم في الحكم؟ وبعبارة أدق، لماذا حدث الصراع السياسي والاضطرابات الاجتماعية والسياسية في بداية حكم صاحب السمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (رحمه الله)، واستمر حتى قبل إعلان مشروع صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة؟ أي لماذا أخفق خصوم البلاد والعباد في القضاء على مشروعه الإصلاحي أو تعطيل نجاحه؟!، ولم يخفق خصوم والده “طيب الله ثراه” عند ما كان حاكماً؟ وهذا يعطي بالمعنى التحليلي أن هناك أربعة عوامل كبرى حالت دون تحقيق ذلك وهي (الأحداث - اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية - تشابه سياق الاضطرابات ومتسببيها - اختلاف طريقة حزم الصراع السياسي والاجتماعي في كلا الفترتين).
إصرار على التمسك بإقامة الحياة الديمقراطية
وارتقى العاهل منبر الحكم في البحرين بعد وفاة والده في ظروف مضطربة وقلقة، انتهت بدايتها في بداية الألفية الجديدة حينما استلم دفة الحكم في البلاد، وهذا يعني أن الحكم وصل إلى الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بعد حركات سياسية دامية لم يساهم هو في أحداثها بالشكل المباشر، أي أنه وجد نفسه وكيان حكمه في ثورة مضطربة وفوضى، ثورة شبه منظمة قام بها البعض من حيث التمهيد لحدوثها ومن حيث الاشتراك في حوادثها، فإيران وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هم رؤوس الفتنة على نظام حكمه، وخصوصاً حينما أعلن عن مشروعه الإصلاحي وحصل على التأييد التام من قبل الشعب البحريني والدعم والمؤازرة من دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا ما أرعبهم وبالفعل حين وصول جلالته إلى دفة الحكم فقاومه الخصوم اعتراضاً مع المصالح وكانت المقاومة تحت ستار المطالبة بالحقوق المعيشية وفتح مجال للحريات، وفي مجريات الأحداث لم ينتفع المعارضون سواءً في الداخل أو في الخارج بالوضع الجديد الذي طرحه الملك كما كانوا يتوقعون لذلك حصلت المقاومة بينه وبينهم، وبعد حصول هذه المجريات وقعت النقمة من قبل المعارضين في الداخل والخارج من نجاح المشروع الإصلاحي، وكذلك من قبل الداعمين لهم على العاهل المفدى وعلى نظام حكمه، كما حصل لوالده من قبل، إذ كانت النقمة بين الفترتين في نظرهم بسبب الخروج عن السياسة العامة وبسبب حل مجلس النواب في عام 1975، فبقي الحال لحين تسلم العاهل، مقاليد الحكم وإصراره على التمسك بإقامة الحياة الديمقراطية وتأسيس دولة المؤسسات والقانون في ظل سياسته العامة.
والشيء الذي لا يرقى إليه الشك، بقدر ما يتعلق الأمر برغبة العاهل حين تسلمه زمام الحكم وطرحه للمشروع الإصلاحي لتلبيد الطريق ولإقامة نظام العدل والمساواة بين أفراد الشعب وفق مستلزمات الشريعة الغراء، وتحت ظل الأعراف الدولية وقد ثبت ذلك من خلال سيرته في أقواله وأفعاله حينما قال “إنه مما لا شك فيه أن الأمور في الدولة تحتاج إلى رأس يحفظ شكل الأمة وتحتاج إلى رجال وإلى علماء يحفظون أخلاقها وعاداتها وتقاليدها وحياتها وطبيعتها) وبهذه النظرة الثاقبة للملك المفدى، أن الحكم والسلطة بمفهومه البلاغي لديه ليس للتسابق والمنافسة، وإنما هو تمليك من الله، لأن المالك هو الله، والمرء لا يُمّلك إلا من قبل رب الملوك، فمتى ما مُلِك الإنسان شيئاً كُلف به ومتى أُخذ منه وضع التكليف عنه وهذه هي سنة الحياة، وهذا المفهوم يُدركه ويعلمه الملك المفدى منذ نشأته إلى حين توليه مقاليد الحكم، وبهذا المفهوم فهو لا يريد الحكم للمباهاة أو للانتفاع المادي أو المعنوي، وإنما أراده ليكون وسيلة يحاول من خلالها إعادة مجريات الأمور إلى نصابها وحفظ هيبة الحكم بعد التصدع الذي أصابه من قبل الخصوم والمعارضين في فترة حياة والده لحين رحيله من دار الدنيا.
اختطاف البحرين من عالم الأمن والاستقرار
وبما أن الكثير من الخصوم والمعارضين في داخل البحرين قد ألفوا حياة التساهل لأجل احترام القانون وتطبيق حدوده، إلا أنه لم يسهل عليهم التجرع لمرارة الحق وصرامة العدل حينما أعلن جلالته عن حالة السلامة الوطنية في 16 مارس العام الماضي لمدة ثلاثة أشهر والتي جاءت بعد أزمة اختطفت البحرين من عالم الأمن والاستقرار ولو أن الموقف من هذه الأزمة كان واضحاً وذلك حينما صرح قائلاً “إذ إن القضاء سوف يأخذ مجراه في مختلف القضايا التي مرت بها المملكة” فقصر المعارضون عن احترام القانون وعن الالتحاق بركب المشروع الإصلاحي فضعفوا عن الالتفاف حوله، مما دفع بجلالته ومن منطلق مسؤوليته وتقديره للأمور بالعمل على لم شمل الأمة وتوحيد صفوفها منطلقاً بذلك من مبدأ تقديم النصح والتناصح، مما نتج عنه إعلان انتهاء حالة السلامة الوطنية في 1/6/2011م وهذه سمة يمتاز بها أهل البحرين سواءً حاكمين أومحكومين، فالبحرين وعبر تاريخها العريق لم تقصر على أحد في عطائها ومساعداتها بل كانت عوناً لجميع الدول والشعوب. بهذه السمة المتوارثة دفعت بصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة أن يلقي الحجة على الجميع حين قال: “إننا وضعنا اليوم هدفاً واحداً بأن تعود الأمور إلى طبيعتها وأن تدور عجلة الإصلاح كما كانت في السابق ، وإن كانت تسير ببطء لكننا جميعاً سوف ندفعها إلى الأمام بحيث تعود إلى دورانها الطبيعي” وكما أشار في سياق الحديث ذاته إلى أمر يؤكد على كياسته وقوة شخصيته في حسمه للأزمة التي وقعت في 14 فبراير 2011م وخصوصاً أنه أراد أن يبرهن للعالم أن البحرين قادرة على أن تحتوي قضايا الرأي بالشورى” حيث إن النتيجة المهمة في النهاية هي وحدة الشعب واتحاده وتكاتفه ومحبة بعضه بعضاً.
لم يكن إعادة جمع الشمل سهلاً على العاهل مع من حوله من الرجال المخلصين في حال الأزمة، لأنهم بالإضافة إلى ما ألفوه من سلوك قبل وبعد وفاة والده من تساهل وعدم الاكتراث في تطبيق واحترام مبادئ القانون كما ذكرنا مسبقاً، وكما يدعيه دائماً الخصوم وبدعم وتأثير من قبل إيران وبريطانيا وأمريكا ومناطق أخرى من لبنان والعراق للحصول على المال والنفوذ على حساب البحرين وشعبها وقيادتها، فلم يخفَ هذا الأمر على صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ولم يكن من غير المستطاع لو أراد (أبو سلمان) أن يداوي الباطل بباطل مثله.
وتأكد ذلك حينما أوضح للعالم استغرابه واستفهامه حين قال: إننا نريد برلماناً أفضل ونريد حكومة أفضل؟! ومن منا يعترض على ذلك؟ عندها اتفقت إرادته مع من قال ذلك فأوضح إليه المعنى قائلاً “لاشك إننا نريد برلماناً أفضل وحكومة أفضل ولكن بواسطة الآليات الدستورية، فاليوم مجلسنا النيابي ومجلس الشورى ومجلس الوزراء لا يوجد فيهم الوزير كعضو يحد ويأمر ويهدد، فالأعضاء لهم مطلق الحرية في مناقشة القوانين ورفع القانون للتصديق عليه من قبل جلالته، وإذا كان للحكومة بخبرتها تعليق أو ملاحظة فيتم عن طريق لجان تبدي رأيها، وأن العضو في مجلس النواب هو الذي يشرع وهو الذي يأمر ومن دون اعتراض الحكومة عليه، بل إذا رأى جلالته نوعاً من الاعتراض أو التوضيح سيعاد القانون للدراسة، وإذا رأى المجلس الوطني بأنه صحيح ولا خلاف على ما أبداه (فجلالته لا يملك حق الفيتو) فالقانون يطبق متى ما اقتضت المصلحة العامة”.
وهذا يعني أن العاهل، أراد إصلاح الأوضاع العامة للبحرين وشعبها من خلال بيت الشعب (المجلس الوطني) بمجلسيه الشورى والنواب، وهو أعرف بما فيه خير وصالح الأمور، وفي نفس الوقت الذي كان فيه مدركاً أن الإصلاح نقيض الإفساد، ولو تعقل القلة من المعارضين لهذا الأمر وعرفوا مدى خطورته على مصلحة البلاد والعباد لما وصل الأمر إلى هذا الحد من الخلاف الشاسع بينهم وبين الحكومة ولما أصبح المشروع الإصلاحي في نجاح وتطور ورقي، إذ إن جلالة الملك حاكم البلاد يريد الخير للجميع، إلا أن الطرف المقابل يريد على العكس من ذلك وهذا ما أكدته مواقفه وأقواله وللتعرف ولتفسير أبعاد مبادئ مشروعه الإصلاحي، حين قال: “ابحثوا إذا وجدتم هذا الأمر (أي دستور البحرين) في الدساتير الموجودة وحتى في الدول الغربية قليل جداً، فالحقيقة إن ما وجد في البحرين لم يفسر كما يجب فلذلك لم يأخذ الصورة الصحيحة عن معناه، وإنني أتمنى أن تتم دراسة لما قُدم مرة أخرى قبل الانتقال إلى مرحلة تطوير أخرى، لأننا إذا لم نستوعب ما قُدم لنا سيكون من الصعب تطويره.
وتتلخص شخصية جلالة الملك، في بُعدها وعمقها الخلقي الذي ينحدر منه العلم بالأمور وعواقبها والتي لا يرقى إليها الإنسان الجاهل في غفلته، لأن نظرته لمعنى الديمقراطية تختلف عن ما لدى باقي الحكام فالديمقراطية لا تعني أن يكون الإنسان متعصباً لرأيه أو إلى أي منهج من حضارته.
نقطة البداية في الإصلاح الاجتماعي الشامل لدى العاهل المفدى، بدأت من إصلاح وتصليح النظام العام للدولة ومؤسساتها، ولو حدث عكس ذلك لتدهور المجتمع البحريني وسار في طريق الضياع، فتلك هي الاستراتيجية العامة والصحيحة لفلسفة الحكم عند جلالته، ولم يسجل تاريخ العالم الحديث حاكماً عادلاً ومستقيماً في عقيدته ومواقفه وأقواله كعاهل البلاد، ولعل مكانته تبدو واضحة للعيان إذا ما درسنا وتأملنا كافة تصرفاته وقراراته الديمقراطية من خلال بزوغ نشأته الأرستقراطية، نجد أنه كان يشارك الجماهير في وحدة مشاعرهم منذ صباه وهذا أمر له قيمته في تأهيل وبناء الشخصية القيادية للمجتمع والدولة.