كتب - عبدالرحمن محمد أمين:
عندما كنت تلميذاً بمدرسة الهداية الخليفية بالمحرق مع بداية ستينيات القرن الماضي كان منزل الوالد الكريم والعم العزيز يوسف سعد عمران الجميري، يقع مقابل المدرسة من جهة الجنوب كنت عندما أشعر بالتعب أو بالحاجة لشرب الماء أو الجوع، أذهب مسرعاً إلى بيت الوالد يوسف الجميري لأرتمي في أحضان الوالدة الحنونة زوجته المرحومة «مريم علي الفضالة»، غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته، فهي التي أرضعتني في طفولتي عندما مرضت والدتي رحمها الله وعجزها عن إرضاعي، فقد كان من العادات الحسنة في تلك الفترة عندما لم تكن الرعاية الصحية بالأطفال موجودة ولم تكن أدوات الرضاعة متوفرة، حين لا يجد الطفل من يقوم برضاعته حين تتوفى والدته أو تمرض تأخذه إحدى نساء الجيران لإرضاعه مع أطفالها، فكانت المرحومة مريم الفضالة تقدم لي الأكل والشراب مع أبنائها وإخواني في الرضاعة وهم الفنان الأخ أحمد يوسف الجميري والفنان الأخ علي يوسف الجميري والفنان الأخ محمد يوسف الجميري والأخ عبدالله يوسف الجميري. بدأ الوالد يوسف سعد عمران الجميري الحديث عن ذاكرته وعن أيام الصبا والشباب قائلاً:
من مطوع ملا أحمد إلى مدرسة الهداية
يوسف سعد عمران الجميري يتحدث عن بداياته : أنا من مواليد 17 أغسطس 1917 بفريق القمرة بالمحرق خرجت إلى الدنيا بعد عملية مخاض وولادة متعسرة استمرت يومين، أما الآن فإنني شارفت على 96 عاماً، وأذكر أن الولادة في تلك الفترة كانت تفتقر لوجود المستشفيات، وأبسط الأدوات التي تسهل أمور الولادة فقد كان أهل الحامل يطلبون رجلاً وامرأة ليقوم أحدهما بدهن يده بمادة لزجة ثم يقوم بإدخالها في بطن المرأة الحامل لكي يحرك رأس المولود إلى الأسفل ليسهل خروجه، وبعد 5 سنوات من ولادتي في عام 1922 أخذني والدي إلى المطوع «ملا أحمد» بفريق بن هندي لتعلم دروس القرآن الكريم إلى عام 1925، بعدها أتممت ختم القرآن حيث أقيمت لي ختمة، وكان المطوع يحصل على مبلغ يتراوح بين 3-5 روبيات من كل بيت، وفي نفس السنة التحقت بمدرسة الهداية الخليفية وكانت مدرسة حديثة وهي الأولى في البحرين ولم يكن قد مضي على افتتاحها سوى 6 سنوات فقط، وفي سنة 1926 أقيمت لنا حفلة بعد انتهاء العام الدراسي حيث حضرها كبار تجار البحرين ووجهاء المحرق من العوائل الكريمة كعائلة فخرو وأبل والعمامرة وكان عمري 9 سنوات، ومما أتذكره أنهم كانوا يلبسون بشوتاً حمراء وكان من حضور هذا الاحتفال أصحاب السمو الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة والشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة وكانت أمامهم طاولة نقف عليها بالواحد ونقوم بإلقاء نشيد ويحصل كل منا على جائزة بسيطة، وفي عام 1927 كان والدي المرحوم سعد عمران الجميري يملك 4 سفن بحرية «سنبوكين وبوم وسفينة» ، وكان اسم السفينة «المنوار»، والسنبوك الكبير «فريعل» اشتراه والدي من الكويت، أما السنبوك الصغير «مزيعل»، وقد كان والدي نوخذة السفن وعمي عبدالله بن عمران نوخذة البوم وخليفة الجميري كان نوخذة «غزيل».
موسم الخير على البحارة
يواصل يوسف الجميري حديثه: أتذكر أن عام 1927 كان من مواسم الخير على البحارة بالرغم من أن كل نوخذة كان نصيبه لا يتعدى 20% من الدخل فقد كان نصيب الوالد في تلك السنة 125 ألف روبية، وكان نصيب الغيص 1700 روبية والسيب 1200 روبية، وكانت تكفي الفرد وقتها 100 روبية كمصروف لسنة كاملة، حيث كان سعر كيس الأرز زنة 4 أمنان 7 روبيات، والسكر نفس الوزن 9 روبيات، والسمك آنة واحدة للربعة وكان سعر اللحم نص روبية للربعة «ما يعادل 2 كيلو»، وعن أشهر البحارة في تلك الفترة كانوا إبراهيم الشاووش وعيسى بن خاطر وسالم الشاووش وإدهام بن جوهر ومن عام 1933-1937 عملت «غيص» مع والدي، إلا أن تلك الأيام لم تستمر. فبعد دخول اللؤلؤ الصناعي الياباني عام 1928 أصاب التجار الكساد وتأثرت أسعار اللؤلؤ الطبيعي كثيراً حتى وصل الأمر بالوالد إلى بيع سفنه للمرحوم سلمان بن مطر وخرجنا صفر اليدين لا نملك شيئاً، وفي عام 1935 وقبل قيام حرب الزبارة بين قطر والبحرين أرسلت حكومة البحرين سفينة لأصحاب سفن الغوص تطلب منهم العودة إلى البحرين استعداداً لخوض الحرب، وعادت جميع السفن واستقرت عند جسر الشيخ حمد بالمحرق انتظاراً للأوامر، وفي الساعة الخامسة من مساء اليوم الثاني لوصولنا طلبوا منا ترك السفن والعودة إلى بيوتنا بعد أن تمت المصالحة بين البحرين وقطر على أن تكون الزبارة لقطر وحوار للبحرين.
العمل في بابكو بوظيفة فرَّاش
في عام 1939 يقول الوالد سعد: التحقت بالعمل في بابكو بوظيفة «فرَّاش»، وكنت أستلم في تلك الفترة روبية واحدة يومياً، ويعمل في الشركة اثنان من العمال وكانا يقومان بسرقة كحول المكائن «أسبريت» لشرابه رغم نهي رئيسهما في العمل لهما عن أنه مضر لصحتهما، لكنهما للأسف ماتا كلاهما منه، فنقلت بدلاً عنهما مع رجل يدعى عبدالله بن درباس، وهو من علمني طريقة الطبع على الآلة، وفي المطبعة أحضروا لي موظفاً يدعى جاسم نصرالله، قمت بتعليمه الطباعة، وأثناء ذهابي للحمام في أحد الأيام حضر لي المسؤول الأمريكي قائلاً: إن جاسم قد تسبب في انفجار أحد السلندرات وطلب مني إصلاحه، وعندما قمت بإغلاقه سبب لي جروحاً في يدي واستمر علاجي 6 شهور دون فائدة حتى أخذني الوالد لأحد شيوخ الدين للقراءة عليّ بعدها أخذوني للعلاج في السعودية وبمجرد وصولي ونظراً لتغيير الجو تشافيت والحمد لله تماماً حتى إنني وأثناء عودة سمو الأمير الراحل الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين في تلك الفترة من رحلة للقنص أقيمت له مأدبة غداء في السعودية عدت معهم في نفس حملة اللنجات القادمة للبحرين عام 1940.
حارس لأول بئر
بترول بالقرب من جبل الدخان
يضيف الجميري: عملت في حراسة أول بئر بترول حفر في البحرين بالقرب من جبل الدخان، وكنا نعمل بنظام النوبات، وكان رئيسنا شخص كويتي يدعى سلمان العنزي وكان متعلماً وكبيراً في السن. أما راتبي فإنه روبية وربع يومياً، وفي عام 1943 طلبت استبدال مكان عملي فتم نقلي من قسم الحراسة إلى قسم الحسابات في عوالي «فرع رواتب الموظفين»، وكان رئيسي يدعى عبدالله الساعي وبعد استقالته عام 1951 عينت رئيساً لقسم الحسابات براتب شهري 130 روبية، وفي عام 1954 تم ابتعاثي إلى بيروت وكان معي راشد بن جابر والشيخ راشد بن عبدالعزيز وابن عمي عيسى عمران الجميري بواسطة طائرة الخطوط الجوية اللبنانية «بومراوح»، وسكنّا في مبنى الجامعة العربية وكان البعض منا قد أهمل الدراسة بحجة أنه حضر للراحة وليس للدراسة، وفي عام 1956 فتحت لنا شركة بابكو مدرسة لتعلم اللغة الإنجليزية واكتسبت تعلم اللغة الانجليزية وتمت ترقيتي إلى الدرجة الثالثة ومن زملائي في العمل المرحوم علي الملا والمرحوم حسن طرادة، وفي عام 1957 تم ابتعاثي للدراسة النظرية لمدة 4 شهور وعشرة أيام في لندن على طائرة «أرسلان» واستغرقت الرحلة 22 ساعة مروراً بالكويت والعراق ولبنان وروما ثم لندن، بقينا في لندن شهراً، زرنا خلاله معالمها من مصانع الملابس والسيارات، ماركة «الفكسهول»، وفي «أكسفورد» زرنا قبر شكسبير، ومن المعالم التي زرناها في بريطانيا مصانع الحديد وصفائح المراكب والطائرات والذرة والموانئ ومناجم الفحم، وكانت البعثة مؤلفة من عبدالغفار العلوي ومحمد فتح الله ومحمد صالح الشيخ ومحمود أميري وأيوب محمد، وبعد عودتنا إلى لندن لمدة 5 أيام أقيم لنا حفل تخرج، وأثناء عودتنا إلى البحرين استغرقت الرحلة من لندن إلى روما 6 ساعات وبعد مكوثنا ساعة في مطار روما غادرنا إلى القاهرة وبعد ساعتين من سفرنا ضربتنا عاصفة رعدية تسببت في انحراف الطائرة فسقطت علينا الأمتعة والشنط وكنا نواجه الموت إلا أن الله قد حفظنا فهدأت الطائرة ووصلنا القاهرة، حيث ركبنا طائرة أخرى عائدين إلى البحرين، وقد استفدنا كثيراً من تلك الدورة حيث قمنا بكتابة تقارير عما شاهدناه، وقد تقاعدت عن العمل عام 1973.
كاميرا «بوكس» بـ 15 روبية
يتحدث سعد عن هواياته: في سنة 1947 أصبحت لدي هواية التصوير فاشتريت آلة تصوير من نوع «بوكس»، وكان سعرها 15 روبية. وأما عن مدة تحميض الأفلام فقد كانت تستمر 3 أيام، وأمتلك مجموعة كبيرة من الصور التي قمت بالتقاطها خلال هوايتي للتصوير، خصوصا لمدينة المحرق ومواقعها الأثرية وأشهر بيوتاتها التراثية، بعد التقاعد مارست هواية صيد الأسماك ويذكر ابنه علي أن والده ماهر في صيد أسماك الصافي و السبيطي وأنه يملك المهارة في تصليح شباك الصيد وعمل «الياروف «، ووضع الكرب والرصاص، وكان يستمتع بمتابعة أسماك الصافي وهي تسير كمجموعات تحت الماء.
مناسبة لا تنسى
في عام 2010 كنت من ضمن وفد من رجالات المحرق في زيارة جلالة الملك المفدى برئاسة محافظ المحرق السيد سلمان بن عيسى بن هندي حيث قدمنا له محصول «دشة الغوص» من «لولو» ومحار وهناك وقفت بين يديه وألقيت الموال التالي:
يارب العبــــــــــــاد
بارك في مليكنا حمــــد
خصـــــه بالإكــرام
و اجعلـه لشعبــــه سنـد
الشعب صـــوت له
يوم الميثاق عزة و سند
آل خليفـــة الكــرام
أفعالهـــــــم ظاهــــــرة
و مكرمــات الملـك
دوم لنــا ظاهــــــــــرة
يـــارب بـــارك لنا
بأفعالنـــــا الظاهــــــرة
و اجعل ملكنا حمد
يــوم الشدائـــــد سنــــد
وبعد أن انتهيت من الموال قام الملك حفظه الله بضمي قائلاً: أتشرف لكم بس وجود يوسف معكم زادني فرحاً، وأمنيتي الآن من الديوان الملكي حصولي على صورة التقطت لنا مع الملك لأزين بها مجلس منزلي.
رجالات المحرق
يذكر يوسف الجميري كانت البحرين خلال ثلاثينات القرن الماضي هي جوهرة الخليج ، وكان بالمحرق رجال لن ينساهم التاريخ كالأديب المرحوم عبدالله علي الزايد والمرحوم يوسف عيسى بوحجي والمرحوم عبدالله بن أمين والمرحوم عيسى محمد الحادي والمرحوم الشاعر عبدالرحمن المعاودة وغيرهم الكثير من العائلات الكريمة كعائلات فخرو والنعيمي والشروقي والعمامرة وبن هندي.
وخلال ثلاثينات القرن الماضي عندما كان عمري 20 عاماً كانت دور الفن من أكثر الأماكن التي يرتادها الناس لقضاء أحلى ليالي السهر بها والاستماع إلى أغاني كبار رجال الغناء في البحرين عامة والمحرق خاصة أمثال المطرب الكبير المرحوم محمد بن فارس والفنان المرحوم محمد زويد والمرحوم ضاحي بن وليد، وكانوا بحق عمالقة الغناء والطرب ليس في البحرين فقط، بل على مستوى دول الخليج جميعها، حيث كنا نقطع المسافات الطويلة مشياً على الأقدام للوصول لها، وحسب ما أذكر أنها كانت تقع في منطقة حالة أبوماهر من المحرق، ومن حينها وأنا مولع بالغناء حيث كنت أردد ما أسمعه من أغانٍ وخصوصاً الأصوات الشعبية التي اشتهر بها مطربو تلك الفترة الخالدة في تاريخ الغناء والفن البحريني الأصيل، لذلك عندما رزقت بأولادي الذكور «أحمد، علي، محمد وعبدالله»، ووجدت عندهم الرغبة في الغناء لإحياء ذلك الفن الخالد كنت أروي لهم حياة من عاصرتهم أمثال محمد بن فارس ومحمد زويد وضاحي بن وليد، فقد كنت أشجعهم على ممارسة مجال الفن ولم أعارض طموحاتهم والحمد لله فأنا أفتخر بأن لدي ثلاثة أولاد يمارسون الغناء وخاصة الشعبي والوطني، فابني الأكبر الفنان أحمد الجميري أصبح من أشهر مطربي البحرين والخليج، أما ابني الآخر الفنان علي الجميري، فإن أكثر اهتماماته الغناء في الدور والحفلات والجلسات الخاصة، أما ابني الآخر الفنان محمد يوسف، فإن له مجموعة من الأغاني التي نالت الكثير من الشهرة وخاصة الوطنية منها.