كتب : أمين صالح
مشاهد الحلم تصبح قوة محرّكة في عدد من أفلام لويس بونويل ولنا أمثلة في «جميلة النهار، وسحر البورجوازية الخفي)، وبوصفه سوريالياً، الخلط بين عناصر الواقع وعناصر الحلم يفتح الطريق نحو واقعية أسمى، محرّرة، وإزاءها تبدو الواقعية التقليدية مبتذلة.
مشاهد الحلم في أغلب الأفلام تبدو محددة الهوية أسلوبياً، والحلم مرئي كواقع ثانوي، أما عند بونويل فالتصوير مختلف. الحلم هنا له واقع ملموس وأساسي، وهو يدغم مع الواقع المادي بحيث يصعب التمييز بينهما، ويضطر المتفرج إلى التساؤل: أين ينتهي الحلم وأين يبدأ الواقع.
أحلام بونويل دوماً تسبر العلاقات المركبة، المعقدة، بين الشخصي والاجتماعي، العقلاني والحسي. وأفلامه تعطي إحساساً بأن الحياة مجرد حلم. منطق الأحلام، في أفلام بونويل، هو جوهرياً مرادف لمنهج المونتاج الذي يستخدمه. من بين أنواع المونتاج، ذاك الذي يقوم على العلاقات بين أشكال بصرية مختلفة تتعاقب من خلال إحلال (dissolve) صورة محل أخرى.
بونويل، كسوريالي، ليس مجرد فنان يخلق مشاهد حلم غير اعتيادية. أغلب أعماله مشرّبة بهذه الخاصية الشبيهة بالحلم. فيض من صور الحلم يستقبلها المتفرج دونما تفسير منطقي.
يقول (1953): «السينما سلاح رائع وخطير حين تستخدمه روح حرة. إنها الأداة الأمثل للتعبير عن عالم الأحلام والمشاعر والغريزة. الآلية الخلاقة للصور السينمائية، من خلال نمط العمل، هي من بين كل وسائل التعبير الإنساني، الآلية الأقرب إلى عقل الإنسان، بل إنها التي تحاكي وظيفة العقل في حالة حلم. لقد أشار جاك برونيو إلى أن الظلام الذي يجتاح ويستوطن، شيئاً فشيئاً صالة السينما هو مرادف لفعل إغماض العينين. بعدئذ تبدأ الرحلة الليلية، على الشاشة مثلما داخل الكائن البشري، نحو ليل اللاوعي. الصور، كما في الحلم، تظهر وتختفي من خلال إحلال مشهد محل آخر بطريقة تدريجية ((dissolve، ومن خلال التضاؤل التدريجي للقطة (fade out). الزمان والمكان يصبحان مرنين وقابلين للتكيّف، الزمن يرتد ويمتد، ينكمش ويتمدد ساعة يشاء المرء. النظام الكرونولوجي (المتسلسل زمنياً) والقيم النسبية للأمد، لا تعود تنسجم مع الواقع. الحدث الدائري يمكن أن يتحقق في دقائق قليلة أو عدة قرون. الانتقالات من حركة بطيئة إلى سريعة تصعّد وتضاعف تأثير كل منها».
خاصية الغموض
عن الغموض في أعمال بونويل، كتبت الناقدة الأمريكية بولين كايل في كتابها Going Steady الصادر في 1969: «لا مبالاة بونويل، تجاه ما إذا كنا نفهم أعماله أم لا، قد تبدو وقحة ومتغطرسة، مع ذلك هي جزء من ذلك الذي يجعله جذاباً وآسراً. اللامبالاة يمكن أن تكون مثيرة في الفن، كما في العلاقة الغرامية. بإبقائنا على بُعد مسافة، في وسطٍ ضمنه يحاول أغلب المخرجين إشراكنا والتأثير فينا، يقوم بونويل، وعلى نحو مقصود، بتقويض مفاهيم هي بديهية تقريباً في الدراما (المسرح) والأفلام ذات النمط الجماهيري. الخاصية الأكثر تميّزاً عند بونويل نجدها في فقدان اليقين بشأن كيفية تعاملنا مع شخصياته، وكيف ينبغي أن نشعر تجاهها. المخرجون الآخرون يخبروننا كيف ينبغي أن نشعر».
أما بونويل نفسه فيتحدث عن الغموض قائلاً: «إذا صار معنى الفيلم واضحاً، عندئذ لا يعود قادراً على إثارة اهتمامي. الغموض هو العنصر الجوهري في كل عمل فني». ويضيف: «لا أظن أن كل شيء في الحياة هو منطقي. الناس دوماً يريدون تفسيراً لكل شيء. إنها النتيجة المنطقية لقرون من التربية البورجوازية. وحين يستعصي عليهم شيء، يعودون إلى الله. الحياة التي تتضمن التباسات وتناقضات تثير اهتمامي. اللغز جميل».
وبسخريته المعهودة من أجهزة الرقابة، يقول: «أعتقد أن الأسبان، بشكل عام، لا يحبون أفلامي.. فلماذا تمنع الجهات الرسمية عرضها؟ من المفروض أن تسمح بعرضها لكي تدين هذه الأفلام نفسها. في اليوم الأول والثاني سوف يدافع عنها الناس من باب التعاطف معي، لكن في اليوم الثالث لن يذهب أحد لمشاهدتها، والجميع سوف يتجاهلونها».
الأخلاقية البورجوازية
يقول بونويل: «شخصياً لم أحاول قط أن أثبت شيئاً أو أستخدم السينما كمنبر لإلقاء المواعظ. ربما سيكون هذا التصريح مخيباً للكثيرين، لكنني أعرف أن الناس سوف يستخلصون من أفلامي الكثير من الرموز والمعاني».(Film Culture, Spring 1962)
«التعاليم الأخلاقية عند البورجوازية هي، بالنسبة لي، لا أخلاقية، وينبغي محاربتها. هذه التعاليم أوجدتها وكرّستها المؤسسات الاجتماعية الأكثر جوراً: الكنيسة، الوطن، العالم، الثقافة.. باختصار، كل ما يُسمى أعمدة المجتمع».
«القيم البورجوازية.. هي التي أردت أن أهاجمها وأحاربها طوال حياتي. قبل أربعين سنة، كان بوسعنا أن نهاجم البورجوازية، أن نفاجئها، لأنها كانت واثقة جداً من نفسها ومن مؤسساتها. لكن كل ذلك قد تغيّر. الدعاية ووسائل الميديا استطاعت أن تمتص كل شيء وتجعله حميداً، أليفاً، ومقولباً.
أعتقد أن على المرء أن يغيّر منهجه في الهجوم، لكن دون أن يغيّر أهدافه. ما أهدف إليه هو أن أدمّر قوانين الامتثالية التي توهم الفرد بأنه يعيش في عالم فاضل ومثالي».
«أنا متشائم، لكنني أرجو أن أكون متشائماً حقيقياً. في أي مجتمع، يتعيّن على الفنان أن يتحمل المسؤولية. فعاليته محدودة، بالتأكيد، ولا يستطيع أن يغيّر العالم، لكنه يملك القدرة على الاحتفاظ بروح متمردة ترفض الخضوع والامتثال. بفضله، لا يستطيع أصحاب السلطة الجزم بأن كل فرد يقرّ ممارساتهم وسلوكهم ويتفق مع أفعالهم. هذا الفرق البسيط هام جداً، حين تشعر السلطة بأنها مبرّرة ومصدّق عليها بالإجماع، فإنها مباشرة تدمّر كل حرية نملكها.. وهذه هي الفاشية» (مجلة نيويورك تايمز، 11 مارس 1973)
«أتفق مع إنجلز.. الفنان يصور العلاقات الاجتماعية الحقيقية بغرض هدم الأفكار التقليدية بشأن تلك العلاقات، ويقوّض أساس التفاؤلية البورجوازية، مرغماً الجمهور أن يرتاب في معتقدات النظام المؤسس».