فاطمــة خليــل النــــزر

أخصائية علاج نفسي



الأنا... نملكها ولكن دون تحديدٍ لهويتها، دون معرفة مكامنها الحقيقية، وذلك لاقترانها بالأمل، فمن ليس على قيد الأمل فهو لا يملك ذاته، بل قد تكون الأخيرة مفقودة أساساً، كالإنسان الذي يعيش ينثر الخير ويدحض ذاته يدفن نواته وينتظر الموت بلا تعبير، بلا ملحٍ ولا سكر، صفحةٌ فارغة من الخطوط والخربشة، فقط بيضاء فقط..
كانت مغايرة تعيش بنطاقٍ آخر، خارج دائرة الواقع، وكأنها رسمت تلك الدائرة بكحل عينيها الحزين، لم يكن ذاك الكحل حزيناً بالأصح ولا سعيداً بالأحرى، بل كان جمعاً فيما بين الاثنين «حزيـــناً» يتدلى بخيوطٍ فاقدةٍ لقيدِ الأمـــل، حريرية رقيقة رقيقة رقيقة، بأيِ لحظة قد تهفها شفاةُ القدر فتنقطع..
تلك البنت بقيدِ منتصف العشرينيات، زاولت حياتها دراسةً تفوقاً فثقافة فعمل فحب... أحبت رجلاً مثقفاً واعي الفكر ومتفتح المنطق يحمل الماجستير ويخوض غمار الدكتوراة، يشاطرها بيادق الشطرنج بالغزل، ويَحكي لها بأن كل بيدقةٍ من تلك البيادق لها حكايةٌ تختزل السعادة وتمارس الفرح للعب، للضحك، للرقص، والأهم من ذلك للحياة..
كانوا معاً كعلاقة الملح بالبحر، والعسل بالنحل، والنور بالبدر.. عشاقاً يتناولون كعكاً بنكهة العيد، ومربى برمانٍ قد سقط سهواً من الجنة.. كانوا شخصين ولكن بصورةٍ واحدة وانعكاساً واحداً وقلباً، من شدة تلاصقه قد يكون أقل من الواحد.
تعرفت عليه بموقفٍ جميل ومضحك عندما يذكر، فقد كانت عند المصرف الآلي للبنك لسحب مبلغ من المال، وكما هو معروف فإن ذلك الجهاز يكون بغرفة مغلقة صغيرة من زجاج محجوب من الأعلى، وفيما كانت تقوم بذلك داهمها رجل لم يكن يعلم بوجودها من عجلته، والغريب أنه توقف فابتسم ولم يخرج بالحال من شدة غباء الموقف وكأن الوقت قد تجمد تحنط توسد الهدوء وعاشر الصمت، رأته وفي نفسها تقول ما باله هذا الأبله فليخرج، فأحس بموقفه وخرج.
بعد أيامٍ قليلة وأثناء متابعتها لصفحتها بالموقع الاجتماعي واتتها إضافة من شخص كانت قد رأته سابقاً ولم تذكره، قبلت الإضافة وما لبثت حينه حتى تذكرته وقالت: أو إنه ذاك الأحمق بجهاز الصراف الآلي وضحكت لوحدها ما هذه الصدف!! والجدير بذكره أن صورتها الشخصية بصفحتها بهذا الموقع ظاهره، أي أنه قد أضافها لقائمته قاصداً إياها.
توالت الأسابيع وقد تعارفا حتى توطدت العلاقة وبات حباً منافياً لمبادئ الحب العادية، قوياً يكسر جلاجل اللغة ويدهن الحروف حركات تغاير القواعد النحوية، يخط حروفاً تزيد على الثمانية والعشرين الثابتة والتي نعتقد بأنها ثابتة، في حين هي بنهج العشاق مختلفة تمام الاختلاف شكلاً حركةً لفظاً وعدداً.
حتى نبرت لهم بعض المشاكل فيما بينهما وأدت للمشاحنات تلو الأخرى، فبرهة تمر، ففراق يتم..
في البداية كانت فترة الفراق عادية وكأن شيئاً لم يكن وكأن الاستراحة من جزءٍ بالذات البشرية مريح بعض الشيء، منقها للنفس الإنسانية، ومنوماً للسرائر القلبية.
ولكن عندما انسرد الوقت والزمن نحو تواريخ أخر وأيام أخر وساعات قد ثارت على عقاربها، فغضبت التقاويم طالبة الغرق الدفن الاختفاء من مجرى ينبوع الحياة، هنا فهم الاثنان بأن الحب عندما يقدم خطاه يأتي بقوة تجرف القلوب لقاع الحضيض لقاع بحرٍ فاض زبداً حزيناً.
حب الحياة يستبين بماهيته لا بطريقة بدأه أو كيفية وقوعه، يستبين من خطوط الوجه وتعابيره، من رجفة اليدين وتجاعيد الأصابع والحنايا بالجسم، ينادي، ينادي، ينادي، كل شيءٍ بالقدر ينادي، ينوح للعودة، يسترجل الحياة فتخور قواه.
وهكذا يفقد الأمل حيزه من الحياة، فتفقد تلك «الأنا»، فيبقى الإنسان بحزنه على قيد التأليف.. منفصلٌ عن ذاته الحقيقية، فـ»الأنا» هي الروح وبعالم الأرواح ليس هنالك من صوابٍ وخطأ، نحن فقط نهوى نلجأ نرغب نود نترجى بصمتٍ صارخ غريق لا منجى له، نحن فقط نختار من بين أمرين، بين ضفتين، أسميناهم بالخطأ والصواب وهي حقيقة أشياءٌ أخر، أشياءٌ لا تسمى لا تدون، تلك لغة الأرواح، ليست كلغة الجسد تخطأ وتصيب، تقهر وتظلم، تنسى متاع الذكريات، لغة الأجساد ظالمة محطمة لا تكترث بالقلوب، هي لغةٌ مريضة تحتاج لسرير وأجهزة للعناية بها، تحتاج للأسلاك، بينما لغة الأرواح فهي لغة تحدث الشعر لا تكتبه.
التواصل القلبي والروحي، لا يبنى بالعشرة ولا بكثرة الأيام ولا بالوقت المديد، التواصل الروحي هو تعادلٌ للروح، هو مرادفٌ للقلب، فالروح تخاطب الأرواح بلغتها الخاصة، فإن عشَقَت روحك روحاً فاعلم أنها انتقت متاعها الأخير وملاذها الأزلي، لا تخدع نفسك فتقول سوف أعشق من جديد، وأحبه مع الوقت، وسوف تتجدد قلبيات تلك الروح، لا صدقني أنت كاذب، فالإنسان محايل ذو وجهين أمام ظاهره الجسدي وباطنه الروحي، يكذب بحرفة، كذباً متتالياً لا صِرفه، فإن لم تلتق روحك بتلك الروح المقصودة بالشريك فهو ليس عديلك القلبي بكل اختصار.
العشاق هم مرادف آخر للمجانين.. لم يكتملوا بالعقلِ بعد.. فما زالوا أطفالاً على قيدِ التأليف.. بخمرةِ الواقع يبحثون عن أمنياتهم المستحيلة.... رغم أنهم مصابون بإصابة أمـــل...
من القلب:
أحبك.. مثل اليمر دامي
وأحبك.. روضة فرح تزهر
أحبك.. شوق بالقلب ظامي
وأحبك.. حلم بأمل يكبر