كتب - حمد عبدالله:
كنت أنتظر دوري في إحدى المكتبات العامة ذات صباح في واحدة من مدن شرق بريطانيا حيث أقيم فيها طالباً للعلم؛ منتظراً حتى ينتهي موظف الاستقبال من خدمة الشخص الذي يسبقني في الدور. وفجأةً، أقبل إلى قاعة الاستقبال رجل يبدو عليه أنه تجاوز السبعين عاماً وقد ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة ويحمل بين يديه ما بدا لي في بادئ الأمر وكأنه جائزةٌ قيّمة. من شدة فرحته ظننته أتى بالورقة التي تحمل الأرقام الرابحة لليانصيب، ثم أخرج من جيبه جنيهين وأعطاهما لموظف الاستقبال وخرج وفي يديه جائزته القيّمة التي كانت عبارة عن كتابين أولهما عن الحرب العالمية الأولى والثاني عن تاريخ الصناعة الحربية في القرن العشرين للميلاد. وعندما استفسرت عن سر سعادة هذا الرجل الهرم قال لي موظف الاستقبال إنه اقتنى للتو كتابين مستخدمين، ثم أشار إلى طاولة في ركن منزوٍ تحتوي على مجموعة من الكتب القديمة المعروضة للبيع بأسعار زهيدة!
لم يكن ذلك المشهد هو الوحيد الذي أدهشني أثناء سفري وتجوالي بين مدن وقرى بريطانيا، فقد تفاجأت أكثر من مرة برؤية كبار السن من الرجال والنساء وهم يملؤون المكتبات الخاصة والعامة إما بحثاً في الأرشيف أو جاهدين لاقتناء مادة علمية ليمضوا بها وقتهم. ناهيك عن أولئك الذين يحملون معهم كتبهم الورقية أو الإلكترونية لقراءتها أثناء تنقلهم في القطارات أوالباصات. وكم عجبت لذلك الهدوء الذي يُخيم على عربات بأكملها نظراً لإندماج من فيها بالقراءة، وحين كانت عيني تتنقل بين عناوين الكتب المطبوعة، كنت تارةً ألمح قصصاً رومنسية وأخرى بوليسية، وفي أحيان عناوين لمواد علمية متخصصة إما في علوم الجغرافيا أو غيرها. ومما لفت انتباهي في إحدى المرات كان رؤية سيدة مسنة وهي تقرأ كتاباً عن سيرة حياة جوزيف ستالين في شبابه بعنوان «الشاب ستالين.»
ورغم كل هذا الشغف بالقراءة الذي يتمتع به البريطانيون بمن فيهم شيوخهم لم يدهشني شيء كما أدهشني رد اثنين من كبار السن تجاوزا الستين عاماً أحدهما رجل والآخر امرأة، ففي لقائي بهما في أروقة فصول الدراسة بالجامعة سألاني عن مخططي المهني بعد إنهاء رسالتي للدكتوراه فأجبتهما عن ذلك التساؤل، ثم سألتهما السؤال ذاته، فردّ كل واحد منهما بالرد ذاته أن دراستهما للدكتوراه هي عبارة عن مشروع تقاعدي! ورغم أن حياتهما المهنية قد انتهت ولم يبقَ من العمر الكثير فلم يوقفهما ذلك عن طلب العلم وتقديم مادة علمية ينتفعا بها وينتفع بها مجتمعهما ودولتهما ويحققا نصراً لذاتهما.
هذه المشاهد والمواقف أثارتني وأّثرت فيني، وصرت أتساءل عن حال المتقاعد في البحرين بشكل خاص والوطن العربي بشكل عام. فما هي مشاريعه العلمية؟ وكيف سيقضي سنواته الأخيرة؟ هل سيقضيها في ساحات المقاهي الشعبية لينال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف في تدخين الأرجيلة وشرب القهوة ولعب الورق والزهر ومتابعة الكلاسيكو حتى يأتيه اليقين؟ لا أدعو إلى الكبت وعدم الترفيه، فجميعنا بحاجة إلى مساحة من الترفيه وترويح قلوبنا ساعة بعد ساعة، ولكني أدعو وأحلم بإعادة إحياء أمة ليساهم أفرادها مع إخوانهم في البشرية في البناء والعطاء، وأن أرى بلدي البحرين رائدة في شتى مجالات العلوم والمعرفة والتكنولوجيا.
لم يوحِ الحق سبحانه كلمة (اقرأ) كأول كلمة تنزل من القرآن الكريم إلى خاتم أنبيائه ومرسليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبثاً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً بل جاءت لتحثنا على التدبر، فكلمة اقرأ تحتوي على خيوط المعرفة وتطلق في بني آدم روح وحب المطالعة والاستكشاف، فبكلمة اقرأ تُفتح لنا أبواب العلم ويُصبح الليل المظلم نهاراً بازغاً وسراجاً منيراً. فهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه بحرينياً وهو ينتظر دوره بكل هدوء في الطابور إما في السوق أو المجمعات وبيده كتاب يقرأه؟