كتب - أمين صالح:
الفكرة
ينطلق المخرج الإسباني لويس بونويل، في بناء أفلامه، من صورة أو فكرة واحدة تفتنه وتتشبث به، والعمل بأسره يتدفق من هذه الصورة مثل نافورة.
يقول بونويل: “قد تكون صورة شاهدتها. على سبيل المثال، صورة القديسة فيريديانا، الصورة القادرة على إطلاق صور أخرى، والتي بدورها تفضي إلى فكرة كاملة. هناك أيضاً الواقع، كما هو منقول بواسطة مواد إخبارية يومية، والرصد المباشر”.
لقد نما فيلمه “فيريديانا” من رؤيته لرجل عجوز يحيط بذراعه فتاة عاجزة عن مقاومته لأنها واقعة تحت تأثير مخدّر ما.
وفيلمه “سيمون الصحراء” نشأ من صورة قديس يعتزل العالم ويعيش على قمة عمود. إنها قصة سيمون الناسك الذي فعل ذلك بالضبط في مكان ما بآسيا في القرن الرابع.
الرؤية
الإنسان، من وجهة نظر بونويل، كائن يصر على إنكار طبيعته الحيوانية، خالقاً مجموعة من القوانين أو القواعد أوالمبادئ التي لا تؤدي إلا إلى مضاعفة عبثيته وتكثيف اضطهاده.
بونويل لا يقيم حاجزاً، من أي نوع، بين الوهم والواقع، بين التلميح المباشر والتشبيهات الأخرى. أفلامه مبنية على المواجهات القاسية بين الواقع والوهم، الأوجه الإيجابية والسلبية، الجانب الصحيح والجانب الخاطئ من الظاهرة نفسها الموضوعة على مسار التعارض والتصادم، من أجل الاقتراب أكثر من حقيقة الشيء.
يقول بونويل: “سوف أستمر في تناول الموضوعات التي أستمتع بها دوماً: الدين والجنس. أنا ضد التعاليم الأخلاقية التقليدية، والأوهام المبتذلة، والنزعة العاطفية، وكل تلك القذارات الأخلاقية في مجتمعنا”.
بونويل يرفض التحليل النفسي لأجل البراءة الخالصة للمخيلة.
«لم أرغب قط في إثبات شيء في أفلامي. السينما التعليمية أو السياسية لا تثير اهتمامي. لا أحد، في الواقع، يستطيع أن يتهمني بشيء، لكنهم دائماً يجدون معانٍ ومدلولات مزدوجة في أعمالي”.
أفلام بونويل تمتلك القدرة على إقلاق المتفرج وإجفاله وزعزعته.
ويقول: “يقولون أن أفلامي عنيفة وهدّامة، أي لا أخلاقية. أنا لا أختار الموضوع أولاً – الخير، العذرية، الوحشية – ثم أقيّد شخصياتي بالمشاكل. ليس لديّ أجوبة مسبقة. أنا أنظر.. والنظر إحدى سبل السؤال”.
ويضيف: “هناك من يقول بأنني قاس ومنحرف. أنا على العكس تماماً، أسخر من الأصنام والشعائر التي تسبّب القسوة والانحراف. أنا أكره العنف والبورنوغرافيا. في شبابي، كانت السوريالية من أكثر الحركات الفنية عنفاً. كنا نستخدم العنف كسلاح ضد ما هو مؤسَس، لكن الآن من الصعب أن تفعل ذلك لأن المجتمع نفسه صار أكثر عنفاً”.
بونويل، في أفلامه، يكرر العديد من الصور والثيمات والحالات والوسائل السردية.
التقنية
تقنية بونويل اعتيادية، متحررة من النزعة الفنية. يقول: “التقنية خاصية ضرورية للفيلم، كما لكل عمل فني، وفي الواقع، لكل نتاج صناعي. لكن لا يجب على المرء أن يصدّق بأن هذه الخاصية هي التي تحدّد تفوق وامتياز فيلم ما. هناك خاصيات في الفيلم يمكن أن تكون ذات شأن أكثر من التقنية”.
وهو يتفادى صنع صورة جميلة، متجنباً الزوايا غير العادية، أو حركات الكاميرا المتكلّفة، أو الحيل في المؤثرات، مفضلاً أن يأسر الأحاسيس والمشاعر من خلال وسائل أقل جلاءً، مثل كثافة الصورة والتجاور اللاعقلاني وتوظيف الصوت.. يقول: “التقنية لا تسبّب لي أية مشكلة أو صعوبة. أنا أمقت زوايا الكاميرا غير العادية في التصوير، أحب أن أصور ببساطة وبشكل مباشر، من غير مؤثرات تقنية تقدمها الكاميرا”.
لقد لجأ بونويل إلى اتخاذ مثل هذا الموقف الحاد والصارم تجاه حيل الكاميرا لأنه شعر بأن عمل الكاميرا غالباً ما يُستخدم كبديل عن المحتوى. لذلك نجد أن حتى حركة الكاميرا تبدو نادرة نسبياً.. يقول: “ما إن تبدأ الكاميرا في الرقص وتصبح هي نجمة الفيلم حتى أفقد اهتمامي بالعرض وأغادر الصالة”.
وهو لا يكره التقنية بل يمقت “التحايل والتلاعب، أكره التقنية الاستعراضية. حضور الكاميرا لا يجب أن يكون محسوساً. عندما أبدأ في رؤية التكنيك في فيلم ما، وبشكل مفرط، فإنني أكف عن الاهتمام به. في أفلامي، أحاول دائماً أن أجعل التكنيك غير محسوس.. ما إن يكشف عن نفسه حتى يصبح الفيلم باهتاً وضعيفاً” (مجلة نيويورك تايمز، 11 مارس 1973)
بونويل لم يكن غافلاً، أو غير مدرك، لإمكانيات الكاميرا، هو فقط كان يستخدم هذه الإمكانيات حين تساعده في التعبير عن أفكاره، ومن أجل الحصول على تأثيرات أقوى أو توكيد حالات معينة. لذلك يؤكد أن “الكاميرا هي عين المدهش. عندما ترى عين السينما حقاً، فإن العالم بأسره سوف يشتعل”.
إنه يرفض السماح بحضور الكاميرا عندما تكون زائدة أو غير ضرورية في فيلمه، كما لو أن ذلك سوف يقوّض أو يضعف استقلال الفيلم بوصفه عالماً حياً يتعايش مع عالمنا، متماثلاً مع الحضور المساوي في الدرجة لحيواتنا الواعية واللاواعية.
وهو قلّما يستخدم اللقطات الكبيرة أو القريبة، مفضلاً استخدام اللقطات العامة واللقطاتtakes المديدة، الطويلة نسبياً.. إذ تساعد هذه اللقطات على ربط الشخصيات بخلفية الصورة، وببعضها البعض. كما أن اللقطات المصاحبة tracking بالكاميرا المتحركة، وحركات البان pan، هي طفيفة ومقتضبة في أفلامه. أيضاً قلما يستخدم الحركة البطيئة. أما الإضاءة فغالباً ما تكون مسطحة flat، ولا تقوم على التلاعب بالضوء والظل. إن تقنيته السينمائية تعتمد على المونتاج، الذي من خلاله يتنامى الفيلم عبر تجاورات العناصر المتباينة والمتناقضة.
بونويل كان ضد التكنولوجيا الجديدة، وهو في هذا الشأن يعبّر عن رؤية تشاؤمية، إذ يقول: “يبدو لي أن صنع الفيلم هو فن مؤقت، زائل، ومهدّد لأنه متصل على نحو محكم، وعلى نحو لا ينفصم، بالتطورات التكنولوجية”.