كتب - علي الشرقاوي:
بدعوة من المسرح الوطني كنت في الدوحة لحضور عرض المسرحية التي كتبتها في نهاية فترة عملي في مختبر المستشفى البيطري في البديع، مسرحية اجتماعية كوميدية، تعتمد على الممثل، وهي محاولة لنقد السلوك الاجتماعي الذي يقوم به المراجع والدكتور وفنيو المختبر، مستمدة أحداثها من الحياة اليومية في المختبر، والقضايا والأحداث التي عايشتها بالطبع بصورة كوميدية تحت عدسة مكبرة.
كلها خيال في خيال، هي مسرحية كتبتها ضاحكا، حالماً أن تضحك الجمهور. «بطة الوزير» التي تصدى لإخراجها المخرج القطري فهد الباكر، وتمثيل مجموعة جميلة من الشباب القطري، على خشبة المسرح الوطني هذه الدعوة شكلت لي مناسبة جميلة لأتلمس التراث وأشتم عبق الماضي الخليجي الجميل الذي عاشه أجدادنا ومن بعدهم الآباء، كل تلك المساحة من الذكريات الجميلة تجمعت في «سوق واقف» بالدوحة.
سوق واقف مشروع تراثي يتجدد
سوق واقف الذي زرته قبل أكثر من عام، أثناء المشاركة بتكريم الشاعر السعودي الكبير بدر بن عبدالمحسن، وطاقم تمثيل مسلسل توق، زرت سوق واقف، وتمنيت أن أسكن في أحد فنادقه، من أجل التمكن من اللف والدوران في السوق الذي أعجبني كثيراً لبساطته وشهود المتحرك في طرقه، بأنه قريب من الماضي الذي استعمرته العمارات المرتفعة والتي تكاد أن تتعب الرقبة، إذا ما الواحد منا بدأ ينظر للأعلى. بقيت هذه الرغبة طي الكتمان.
المهم استقبلني الفنان محمد البلم مدير مسرح الشباب في المسرح الوطني من المطار، وطاف بي على العديد من فنادق الخمسة نجوم، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على غرفة.
وبعد المرور على عدة فنادق وصلنا إلى سوق واقف، وهناك سأل عن وجود غرف شاغرة، فقيل له إنها متوفرة. كان محرجاً أن يأتي بي إلى هذا المكان في الوقت الذي كنت فيه، فرحاً، وأنا أدخل فندق المرقاب، أردد أن قانون الجذب الذي تكلم عنه فيلم وكتاب السر، يعمل لصالحي. فأفصحت له عن رغبتي الحقيقية للسكن في مثل هذا الفندق.
شاي كرك في السوق الشعبي
ما إن ذهب محمد البلم لإنهاء بعض مشاغله المسرحية، حتى وجدت نفسي ألقي بالحقيبة في الغرفة، وأخرج لمشاهدة أجواء السوق والجلوس على أحد كراسي المقاهي الشعبية، طالباً شاي كرك، وهو الشاي الأكثر شهرة في الدوحة، وأبدأ بملاحظة فرقة الخيالة التي يدور فرسانها على الممر الذي أجلس فيه تعدو مرات في اليوم، الفرقة مكونة من عشرة فرسان، يرتدون الملابس القطرية التقليدية، متنطقين بأحزمة وأشكال بنادق، صوت الخيول يدخل في مسامات الجلد. فيما الزوار من جميع أنحاء العالم بأولادهم يتابعون العرض ويمرون من أمام القهوة الشعبية، شاي واحد لا يكفي فأطلب آخر، وأواصل التأمل في هذه المنطقة من العالم التي تحولت إلى ما يشبه بابل في مرحلة ما قبل التاريخ الميلادي.
بطة الوزير
في المساء كنت جاهزاً لحضور المسرحية، التي لا أعرف كيف ستخرج، ومن عادتي أن أترك للمخرج حق التصرف في العمل حسب رؤيته، ولذلك لم أكن متفاجئاً بالتغيرات التي أجراها المخرج
وهو يجسدها على الخشبة و بقدر ما كنت مفتوناً بالشباب الجادين وهم يتمتعون بتقديم هذا العرض.
كتبت الصحف القطرية عن المسرحية التي تواصلت عروضها على مدى أربعة أيام على خشبة مسرح قطر الوطني، المسرحية الكوميدية الموسومة بـ « بطة الوزير»، التي قدمها المركز الشبابي للفنون المسرحية التابع لوزارة الثقافة والفنون والتراث من تأليف الكاتب البحريني علي الشرقاوي، وإخراج القطري فهد الباكر، وتمثيل مجموعة من الشباب القطريين والعرب.
تدور أحداث المسرحية التي يتم عرضها على مدى أربعة أيام، في قالب كوميدي اجتماعي، بمعالجتها لقضايا اجتماعية ومشكلات في دول الخليج والعالم العربي باعتبار المشترك الكبير بين هذه الدول
تدور أحداث «بطة الوزير» داخل عيادة بيطرية، حيث يستقبل الأطباء الحيوانات بنوع من اللامبالاة والاستهزاء بالفقراء، إلى أن تأتي بطة الوزير فيخرج العلاج المختفي باستمرار، وتعامل البطة وكأنها إنسان له كامل الاحترام نظراً لقوة صاحبها. وتأتي المفاجأة أن «البطة» تعود لوزير سابق فيندمون على رعايتهم لها. ويبدو أن رياح التغيير التي هبت نسماتها على الوطن العربي من المحيط إلى الشام، وجدت متنفساً لها عبر هذا النص المسرحي.
وقال المخرج فهد الباكر في تصريح صحافي: إن عرض هذه المسرحية يعد نقلة نوعية في عمل المركز الشبابي للفنون المسرحية، حيث يتدرب الشباب لأول مرة على العرض التجاري، فرغم إتاحة العرض بالمجان للجمهور، إلا أن العرض لأربع ليال مستمرة، وكل عرض يدوم ساعة وربع، يتيح للممثلين الشباب الانتقال إلى مرحلة الاحتراف، ملفتاً إلى أن العرض على مسرح قطر الوطني يصب في نفس الجانب موجهاً الشكر لوزارة الثقافة والفنون والتراث على إتاحة هذه الفرصة للشباب.
من جهة أخرى، فإن فهد الباكر يقر أنه في ظل الأزمات والكوارث والحروب التي نمر بها، « نسينا كيف نضحك» داعياً الجميع أن نتعلم كيف نبتسم ولو لساعة، رغم أن العمل يزيد عليها بـ « ربع ساعة». وفي ذات السياق يقول مؤلف العمل المسرحي علي الشرقاوي « صعوبة الإضحاك، سهولة الإبكاء، أن تقوم بعملية إبكاء المشاهد، ما عليك سوى أن تخلق موقفاً ميلودرامياً، لكن أن تضحكه تحتاج إلى كم هائل من التقنيات والفنون والحركات والعبارات الخارجة عن المألوف، وهذا ما تحاول أن تقوم به مسرحية بطة الوزير التي يتصدى لها المخرج ومجموعة الممثلين الشباب، في محاولة لخلق الابتسامة على شفاه المشاهدين».
السوق «يقف» بحضارته في قلب الحداثة
سوق واقف هو سوق تقليدي يعتبر من أهم المعالم السياحية في مدينة الدوحة، يجمع السوق بين العراقة والأصالة وبين المدنية الحديثة، وهو أشهر معلم سياحي وتراثي يقصده السياح والمواطنون. يشتهر السوق ببيع المشغولات التراثية وتناول الطعام العربي والشعبي والعالمي.
ستجد فيه العديد من المقاهي والمطاعم التقليديّة التي تفتح أبوابها حتّى ساعة متأخّرة « بعضها يفتح 24 ساعة» و تقدم المطاعم المأكولات المحلية الشهيّة إضافةً إلى الشيشة أو النرجيلة التقليديّة، كما تقدّم عروض دوريّة للرقصات والموسيقى الشعبية، ولاسيما في الاحتفالات الكبيرة. وهناك إمكانية لالتقاط صور فوتوغرافية للحمير التي تحمل على ظهرها البردعة التقليديّة المزخرفة. ويعتبر سوق واقف من الأماكن القديمة في قطر ولكنه خضع لعملية تجديد في التصميم مع الحفاظ على الأصالة بأمر من سمو أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. سمي سوق واقف بهذه التسمية كما يقول مختصون بالتراث القطري لأن الباعة كانوا يقفون إلى جنبات الطريق التي تؤدي إلى السوق الكبير في الدوحة ليبيعوا فيها أشياء مثل البقل و السمك.
ويقع سوق واقف في مكان مميز يربط المدينة بالبحر، أي بين منطقة الأسواق والكورنيش وكل من زار سوق واقف يحس أنه في الماضي الجميل الذي نتنفسه مع حكايات الأجداد والآباء
والذي نلمسه من خلال مشاهدة الفن المعماري القديم وهو يعبق بنشوة الماضي الأصيل، وأكثر ما يتميز به هذا السوق هو خلوه من الأيدي العاملة الآسيوية، وهو محافظ على الطابع العربي الأصيل.
يقول الكاتب سعدون الثبيتي إنه بالرغم من انتشار مراكز التسوق الكبرى ذات الأسماء الشهيرة منذ سنوات في الدول العربية، إلا أن الأسواق التاريخية القديمة لا تزال تحتل « بأصالتها « مكانة كبيرة لدى المتسوقين العرب وغيرهم من الأجانب، ففي دوحة قطر يبرز «سوق واقف» ذو الطابع القديم والمميز، حيث لايزال قائماً منذ عشرات السنين بعد إعادة تأهيله بتوجيه من الحكومة القطرية باعتباره صفحة من صفحات تاريخ قطر الحضاري، لذلك تمت إعادة بنائه بنفس المواصفات السابقة بعدما تم هدم الأبنية الإسمنتية التي قامت حديثاً وذلك بهدف استعادة الطابع القديم والمميز للسوق حتى لا يفقد هويته وأصالته، حيث تم الاستعانة بالصور القديمة للسوق وكذلك روايات كبار السن ذوي الخبرة والدراية في السوق ومواده التي بني بها
«سوق واقف» تاريخه.. وسبب تسميته
لم يكن هناك تاريخ ثابت لإنشاء السوق، إلا أن الروايات تؤكد وجود السوق منذ عشرات السنين عندما كانت الدوحة قرية صغيرة. حيث كانت تباع فيه الأخشاب ومنتجات الألبان وتعود سبب تسميته بهذا الاسم لكون وجوده على ضفاف وادي» مشيرب» الذي يفصل الدوحة آنذاك إلى نصفين والذي يأتي من المرتفعات ويصب في البحر «الخليج العربي» وكان الباعة في ذلك الوقت يجتمعون يومياً لممارسة البيع والشراء في ممر ضيق بين الوادي والبحر ونظراً لتقارب ضفة الوادي مع ساحل البحر وتناقص حجمها لم يسمح للباعة ومرتادي السوق سوى بالوقوف لذلك سُمي بـ «سوق واقف» وبقيت هذه التسمية حتى وقتنا الحاضر، والسوق منذ بداياته كانت تباع فيه كافة المستلزمات اليومية من مواد غذائية مثل الأرز والتمر والسكر والملح والبهارات والملابس وغيرها من مواد البناء. وكان للبدو دور كبير أيضا في بيع سلعهم مثل الدهن والاقط واللبن والفحم والأخشاب وكذلك المواشي، وكانوا يعرضون سلعهم وبيعها في يوم الخميس من كل أسبوع.
معلم سياحي لقطر
«سوق واقف» أصبح معلماً سياحياً لدولة قطر فالزائر للعاصمة الدوحة لا يكاد يغادرها دون أن تطأ قدمه أرض السوق وإلا ستكون زيارته لهذا البلد ناقصة. فمن يزور السوق سيجد المتعة في التسوق داخله سواء كان يبحث عن المنتجات والملبوسات الأثرية أو المنتجات الحديثة، إضافة إلى المشغولات اليدوية كالخياطة والمنسوجات والنجارة، كذلك سيجد الباعة على أطراف السوق من كبار السن من الرجال والنساء يبيعون منتجاتهم المحلية. كما إن الزائر للسوق تتوفر لديه خيارات عدة للتمتع بالسوق والتوقف في المقاهي التي تحكي أصالة وعراقة الماضي في دولة قطر، فالزائر يتمتع بالجلوس على الكراسي الخشبية ذات الطابع القديم ليحتسي فنجاناً من الشاي أو القهوة العربية في الهواء الطلق وهو يمتع ناظريه في أركان السوق وزواياه التي تفوح منها رائحة الماضي الأصيل.
والسوق يتميز بهويته الشعبية القديمة إذ تتوفر في جنباته عدد من الصناعات الحرفية التقليدية كالمشغولات اليدوية والملابس الشعبية والسيوف والخناجر، والتطريز، والعباءات القديمة والذهب، كما تحتل محلات العطارة والتوابل مكاناً في السوق وذلك لبيع الأعشاب الشعبية التي تستخدم في الطب الشعبي. وتتميز الممرات داخل السوق بالطابع الأثري القديم والضيق فأرضيتها من الحجارة القديمة المميزة والذي يعطي السوق بعداً تاريخياً أصيلاً يميز مدينة الدوحة. كل شيء في السوق تم ترتيبه بعناية حتى لا يفقد الهوية التاريخية فرجال الأمن في السوق تميزوا بالزي الأمني ذي الطابع القديم المميز والذي يضفي لمسة من لمسات الأصالة والعراقة لهذا البلد الخليجي. كما إن مواقف السيارات في السوق عُمِلت أرضيتها من الصخور المتراصة بجانب بعضها البعض لتشكل منظراً جميلاً يتميز بالتاريخية.
وسوق واقف الآن يعتبر من الأسواق الشهيرة والمعروفة في الخليج إذ يرتاده الخليجيون وغيرهم من العرب والأجانب الذين يزورون دولة قطر لأنه يعد معلماً أثرياً وتاريخياً وعلامة سياحية بارزة للعاصمة الدوحة.
سوق واقف
وكما تمتعت شخصياً هناك من يقول لك إنه لا تكتمل زيارة الدوحة دون الجلوس في سوق واقف والتمتع بارتشاف كأس شاي أو قهوة عربية، وربما تذوق أكلة من الأكلات العربية المنتشرة في مطاعمه التي تعد بمثابة صورة تقريبية للوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
فسوق واقف كما يرى الكثيرون الذين زاروه، يعد أهم معلم تراثي وسياحي يقصده المواطنون والمقيمون ويزوره كبار الزوار الذين يفدون على قطر فيفتتنون بعمارته وأصالته وبيئته المستمدة من العمارة الإسلامية التقليدية من خلال استعمال مواد البناء التي بُنى بها السوق قبل ما يزيد عن قرن ليكون خير شاهد على نمط الحياة في قطر وطهارة وحسن وفادة أهلها لكل من يأتي إليهم من مختلف الأصقاع.
شيء من تفاصيل السوق
ولا يمكن زيارة هذا السوق دون أن تفتتن بتفاصيله التي تجمع بين ثناياه روعة العمارة العربية القديمة والتراثية وبهاء العصرنة التي دخلته دون أن تخل بنظامه كمكان يتنفس التاريخ ويحكي قصة قطر قديماً وحديثاً، خاصة في ظل انتشار مجموعة من الدكاكين المتخصصة في تسويق تراث قطر وعادات أهل قطر وتقاليدهم، لتقريب صورة البلد الذي يرفل اليوم في ثوب النهضة الاقتصادية والعمرانية، لكن دون أن يتخلى عن إرث الأجداد خاصة أن قطر تعتبر آخر معقل في الخليج العربي نجح في الانفلات من قبضة الهجمة الغربية والتقليعات القادمة من وراء البحار لاجتثاث أعز ما يملكه الإنسان العربي ألا وهو اعتزازه بتراثه وثقافته وحضارته.