قال شيوخ دين وعلماء إن «في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، والتي مضى عليها أكثر من 14 قرناً من الزمان دروساً لا حصر لها تمثل نبراساً للمسلمين في حياتهم»، فيما أشاروا إلى أن «الهجرة الظاهرة هي التي بالجسد من مكان لآخر، والقصد الأعظم منها الفرار بالدين من الفتن، وهي واجبة على من عجز عن إظهار شعائر دينه لاسيَّما المفروض منها، بينما أوضحوا أن الهجرة الباطنة هي الأصل والمقصد، لأنها واجبة على المسلمين جميعاً في هجرة ما نهى الله تعالى عنه، والامتثال لشرع الله وسنة نبيه، استناداً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فهذه الهجرة تسمو بروح المؤمن على الزمان والمكان والجسد، فيتقرب من خالقه».
دروس وعبر من الهجرة
من جهته، قال الشيخ بشير جويزي صالح «تمر الأزمان والدهور والعصور وتبقى الهجرة النبوية المباركة معيناً لا ينضب، نتعلم منها دروساً وعبر ينبغي أن تكون في ذاكرة المسلمين منهجاً لحياتهم ونبراساً في طريهم لاستعادة مجدهم».
وأشار إلى أن هناك «وقفات وعبر من هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم» تتمثل فيما يأتي:
^ ما بين تدبير الله ومكر قريش: لقد دبرت قريش مكيدة لقتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والقضاء على الإسلام، لكن الله له في ملكه شؤون يدبر لدينه ولنبيه ولأتباع دينه فأرسل جبريل إلى رسول الله يخبره بمكيدة قريش وأن الله قد أذن له في الخروج وحدد له وقت الهجرة وبين له خطة الرد على قريش فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وهنا علينا أن نتعلم أن من كان الله معه فلن يقدر عليه أحد، يقول تعالى (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
^ الأخذ بالأسباب والتوكل على الله: إن الله تعالى قادر على أن ينجي نبيه صلى الله عليه و سلم وينقله من مكة إلى المدينة بين طرفة عين وانتباهتها كما فعل به في الإسراء والمعراج، لكن الله أراد أن تتعلم الأمة درس الأخذ بالأسباب ومن ذلك: السرية التامة في خطة الهجرة، وخروجه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل حتى لا يراه أحد، وسلوكه صلى الله عليه وسلم طريقاً مضاداً للطريق الشمالي المتجه إلى المدينة وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن حتى وصل إلى جبل ثور وهو جبل شامخ وَعِرُ الطريق، وتخفى الرسول 3 ليالٍ في غار ثور حتى يهدأ الطلب من قريش في أثره، والله تعالى كان قادراً على أن يخفيه عن أعين قريش تماماً من أول الرحلة إلى آخرها كما فعل ذلك لما خرج صلى الله عليه وسلم من داره وهم على بابه، وقد أخذ الله أبصارهم فلم يروه، وحتى لما وصلوا إلى الغار أعماهم الله عن رؤيته وصاحبه، لنتعلم الدرس.
ومن الدروس المستفادة أيضاً اتخاذ الدليل، وهو عبدالله ابن أريقط الليثي، وكان على دين قريش لمهارته ودرايته بالطريق، وفي ذلك جواز التعاون مع المشركين بما لا يضر المسلمين.
وروى البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: «اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما» وفي لفظة «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
كما تجلت معجزة الهجرة أيضاً في قدرة الله على تحول موقف سراقة بن مالك، الذي كان يجد في أول النهار ليأتي بالرسول الكريم حياً أو ميتاً، طلباً للدية، فيتحول في المساء إلى حارس للرسول وصاحبه، يقول الله تعالى: (أليس الله بكاف عبده).
وتابع الشيخ جويزي صالح «وقد تمت الهجرة المباركة وأخبرنا رسولنا كما في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية»، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»».
وأشار إلى أن «المجتمع الإسلامي يعتمد في ذلك على قاعدتين، قاعدة ?يجابية وهي فعل الخير من إفشاء السلام وإطعام الطعام والحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي وهي قاعدة سلبية وهي الأهم».
ولفت إلى أنه «إذا كانت الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فراراً بالدين من أفضل القربات فإن هجرة الفواحش والمحرمات من أعظم الطاعات، والمهاجر الحق هو الذي يهجر المعاصي من فسق وعصيان ويبتعد عنها بل لا يحوم حولها حتى لا يقع فيها».
وأوضح أنه «من علامات المسلم التي يستدل بها على حسن إسلامه سلامة المسلمين من شره وأذاه بل إحسان المعاملة مطلوب مع غير المسلمين بل مع غير الإنسان كالطير والحيوان».
الهجرة.. ظاهرة وباطنة
من جهته، قال الشيخ الدكتور النعمان منذر الشاوي إن «المسلمين يحتفلون كل عامٍ بذكرى الهجرة النبوية الشريفة. والهجرة -ببعدها المكاني- وهي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، كانت منعطفاً هاماً في تاريخ الرسالة الإسلامية عامة، وتاريخ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت لها ثمار عظيمة، ونتائج مهمة، لذلك امتازت من بين مئات وقائع صدر الإسلام، بأن اعتبرت مبدأ التأريخ الإسلامي، وفُضِّلَ المهاجرون الأولون على من بعدهم برضى الله تعالى عنهم، ووعدهم بالخلود في الجنة، ووصفهم بالصادقين».
وتابع أن «الهجرة بالجسد من مكان لآخر هي الهجرة الظاهرة، والقصد الأعظم منها الفرار بالدين من الفتن، فهي واجبة على من عجز عن إظهار شعائر دينه لاسيَّما المفروض منها. وفي مقابل ذلك، هناك هجرة باطنة، هي الأصل والمقصد، وهي واجبة على كل أحد، فهي هجرة ما نهى الله تعالى عنه بترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء، وما يوسوس به الشيطان الرجيم، وهذه الهجرة هي التي أشار إليها النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عن»، فهذه الهجرة تسمو بالروح على الزمان والمكان والجسد، ويهفو معها القلب إلى الله ورسوله»».
وأوضح د.النعمان الشاوي أن «الهجرة ذات شقين، هجرة إلى الله تعالى، وهجرة إلى رسوله الكريم، وهذا التقسيم مستفاد من قوله (صلى الله عليه وسلم): «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله».
فأما الهجرة إلى الله تعالى فهي هجرة القلب من عبادة غير الله إلى عبادته سبحانه، والخضوع له والذل والاستكانة إلى دعائه، يقول تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)، فالفرار إليه تعالى هو الاستغناء به عمن سواه، واستحقاقه وحده تعالى للعبادة، وبهذا تكون قد عرفت لم قرَنَ سبحانه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضعٍ، لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر، وأما الهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فتكون بمتابعته في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، وبتمثل أخلاقه في كل صغيرة وكبيرة، بحيث يكون سلوك المسلم موافقاً لشرع الله الذي جاء به النبي الكريم».