ينتشر في العديد من وسائل الإعلام حالياً مفهوم الفوضى الخلاقة كمصطلح سياسي له العديد من الدلالات، فما هو المقصود به؟ وما هي النتائج التي يمكن أن تترتب عليه؟ وما علاقته بالأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ عدة سنوات؟
الفوضى الخلاقة كمفهوم سياسي ليس بجديد في نظريات السياسة، بل هو مفهوم قديم لم يحظ باهتمام كبير من قبل الباحثين وحتى السياسيين إلا قبل عقود قليلة. وتتضمن كثير من الكتابات والأدبيات الخاصة بتيارات سياسية أطروحات تتعلق بالفوضى التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج حقيقية وفعّالة بمرور الوقت.
ظهر مفهوم الفوضى الخلاقة في أدبيات الجماعات الماسونية القديمة، وساهم في تقديم إضافات نظرية له الباحث الأمريكي دان براون. وظل المفهوم لعقود طويلة من الزمن خلال القرن العشرين مرتبطاً بنظريات الإدارة، بحيث تكون الفوضى داخل المؤسسات أداة من أدوات النجاح بعد فترة ومعطيات معينة، إذ تقوم الأطروحات الإدارية التي تستخدم مفهوم الفوضى الخلاقة على أنها مرحلة من مراحل التغيير الإداري التي يمكن أن تمر بها أية مؤسسة لتشهد مزيداً من التطور والاستقرار في مرحلة لاحقة.
من الناحية السياسية، لم يهتم الباحثون بالفوضى الخلاقة كثيراً، ولم تكن له استخدامات كبيرة على الصعيد السياسي إلا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 عندما بدأ تيار المحافظين الجدد خلال حكم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في التفكير جدياً في كيفية تنفيذ سياسات تهدف إلى تغيير واقع ووضع سياسي معين إلى وضع سياسي آخر يمكن من خلاله تحقيق الأهداف بشكل أفضل.
بعد أحداث سبتمبر 2011، تركز تفكير المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية على كيفية إعادة تغيير الأوضاع السياسية القائمة في الشرق الأوسط وبعض الدول في العالم لتكون أكثر استقراراً وبما يضمن خدمة المصالح الإستراتيجية الأمريكية، حيث شهد العالم اهتماماً دولياً كبيراً بكيفية محاربة الإرهاب الذي أدى إلى أحداث سبتمبر التي هزّت الولايات المتحدة والعالم آنذاك. وشهد أيضاً محاولة تغيير موازين القوى الدولية الداعمة للإرهاب، ولذلك شهدت أفغانستان حرباً لإنهاء حكم حركة طالبان المتشددة، بالإضافة إلى حرب العراق لإسقاط نظام البعث الحاكم في مارس من العام 2003. في أبريل 2005، أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس بتصريح مهم لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية وطرحت ضرورة تبني الفوضى الخلاقة للتغيير في منطقة الشرق الأوسط. وارتبط تبني الإدارة الأمريكية مبدأ الفوضى الخلاقة في سياستها الخارجية ضرورة بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تعتمد على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون ودولة المؤسسات.
لذلك تركز اهتمام السياسة الخارجية الأمريكية على كيفية دعم الجهود الرامية لبناء الأنظمة الديمقراطية الجديدة بسبب قناعة تقوم على أن الأنظمة التي تسعى الولايات المتحدة لنشرها ستساهم في تحقيق المزيد من الاستقرار، وعلى المديين المتوسط والطويل ستساهم في تعزيز الأمن والسلم الدوليين بما يخدم حماية المصالح الإستراتيجية الأمريكية.
وشهد العالم موجة تغيير للأنظمة السياسية بعد تبني الولايات المتحدة مبدأ الفوضى الخلاقة في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية وحتى جمهوريات آسيا الوسطى. وخلال هذه الموجة دعمت الإدارة الأمريكية بعض الجماعات من أجل المساهمة في إنشاء الأنظمة الديمقراطية الجديدة.
الفوضى الخلاقة -التي شهدتها الدول التي طالها التغيير السياسي- قامت على إحداث ثورات شعبية لإسقاط الأنظمة السياسية القائمة بعيداً عن أية مواجهات عسكرية بحيث يكون التغيير نابعاً من الداخل ومن دون تدخل خارجي مباشر. ورغم المخاطر التي تحملها الفوضى الخلاقة التي يمكن أن تمر على الدول بسبب الثورات الشعبية الداخلية، إلا أنها مرحلة غير مستقرة ومن المفترض أن تؤدي لاحقاً إلى حالة من الاستقرار لهذه الأنظمة وللنظام الدولي نفسه.
نجحت العديد من الثورات الشعبية ـ التي أطلق عليها الثورات الملونة ـ إلى إسقاط الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة فيها لتبدأ مرحلة بناء الأنظمة الديمقراطية الجديدة، وهي ما سميت بالديمقراطيات الناشئة. ولكن نتائج التغيير السياسي فيها لا تزال غير معروفة المسارات والمستقبل.
على مستوى الشرق الأوسط، شهدت المنطقة موجة من عدم الاستقرار والثورات الشعبية التي أسقطت أنظمة حاكمة منذ ديسمبر 2010، وهو ما أطلق عليه في وسائل الإعلام بـ (الربيع العربي). تلك الدول شهدت حالة من الفوضى الخلاقة التي يفترض أن تقود استقراراً مستقبلياً.
ومن العوامل الأساسية التي ساهمت في انتشار الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط وسائل الإعلام الدولية، وشبكات التواصل الاجتماعي التي استطاعت إنهاء سيطرة الدول على الإعلام وتراجع قدرتها على التحكم في اتجاهات الرأي العام.
أما أبرز الانتقادات التي تواجه نظرية الفوضى الخلاقة والأطروحات المرتبطة بها أنها غير معروفة النتائج، إذ لا توجد ضمانات على أن انتشار الفوضى سيؤدي بالضرورة إلى التغيير السياسي المستقر من خلال الأنظمة الديمقراطية. كما أن المدى الزمني لحالة الفوضى غير معروف ومن الصعوبة بمكان تحديد مساراته والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه. بالإضافة إلى أن الفوضى الخلاقة تتسم بتكلفتها العالية التي يمكن أن تؤدي إلى تدمير الدولة ومقدراتها بشكل غير مسبوق من خلال الاحتجاجات والمواجهات التي لها كلفتها المادية وكذلك يمكن أن يذهب ضحيتها الآلاف من الأفراد. أيضاً من الانتقادات الأساسية التي توجه للفوضى الخلاقة أنها تفتح المجال أمام القوى الدولية إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يتعارض مع مبدأ سيادة الدولة، ويتعارض أيضاً مع مبدأ أصيل من مبادئ الأمم المتحدة.
ان نظرية الفوضى الخلاقة خطيرة وتعد تحولاً جديداً في السياسة الدولية، ويمكن أن تساهم في تغيير العلاقات الدولية على المدى الطويل، خاصة وأنها تجربة جديدة لم يشهدها النظام الدولي من قبل.