لم تسأل الزهرة لمَ نالت من روحها النحلة، ولم تسأل النخلة لمَ تعبث في طلعها النسمة، ولم يسأل البحر لمَ تنهل من خيره الغيمة. إنها روح الفطرة في كل موجود، أن يسمح لسواه أن يأخذ.. أن يحيا.. أن يفعل. في شرعةٍ وضّاءة لا تنكر حقّ مكوّن، في دورةٍ خلاّقة يتلاقى فيها النيل مع الإعطاء والظفر مع الإجزال. فلولا أخذ النحلة ما ألقت من رجليها بذرة نبت، ولولا الغيمات ما اخضرّت كل الغابات، ولولا عبث النسمة ما انتشر طلع الإنبات.
فطرة الله العظيمة الجارية في كل الكون حياة للمخلوقات، من شذّ عنها وعصى فيها ضاع وضيّع وباد وأباد. فهلّا أدرك حمّال الأمانة ذلك الإنسان هذه الحقيقة، وهلّا توقف أن يتغافل عن صوتها ذاك. ويتوقف عن تبديد منحة الرحمن للكون والإنسان، فحين يتوقف هذا الإنسان أن يسمح للآخر أن يأخذ وينال ويقول ويفعل ويفكر ويعبّر، فإنه يفسد في أصل الخلق ويطغى في روح الفطرة التي تدعوه لأن يتعايش مع غيره في سلامٍ وتلاقٍ خصب، كما المخلوقات كلها حين تعيش وتنال وتأخذ وفي ذات الوقت تسمح لغيرها أن يفعل هذا، بل وفي نهاية المطاف تظفر من جديد بنتاج ما أعطته وما أفسحت الطريق إليه.
تلك حقيقة وقانون ودورة كونية وسنة إلهية تُعزّز من حاجة البشر -كما بقية المخلوقات- لمستوى من التناغم بين بعضهم. فإن لم أعطِ لم آخذ، وإن لم أسمح للغير لن يسمح لي غيري ولو بشكلٍ ما ووقتٍ ما، فالبذرة أنا من يلقيها والأرض أنا من يسقيها.
في يوم التسامح الدولي نؤكد على أهمية هذا الوعي لكل إنسان، وندعو لإيقاظ هذه الفطرة داخلنا وهي قابليتنا واستعدادنا لأن نمنح من أنفسنا ما نريد نيله من الآخرين، وأن نهب من الحرية للغير بمقدار ما نرى استحقاقنا نحن منها، وأن نحترم من غيرنا أفكاره وأقواله وعقائده وانتماءاته، وأن نتعايش باختلافاتنا هذه على أساس أنها جزء من ثرائنا وتميزنا وتألقنا، بل في كونها جزء كذلك من دورة حياتنا وحضارتنا كمجتمعات إنسانية لا تزدهر إلا حين تُرفد بمستوى من التنوع في شتى الوجوه، كما هي الأرض حين لا تزدان بالزهر دون الأشجار ولا بالبحر دون الأنهار، بل على العكس من ذلك فإنها ترى بقاءها وزينتها في هذا التنوع الرافد لحياتها واستمرارها.
اليوم الكرة في ملعب كل إنسان -في أي موقع كان- لينهض بهذا الوعي بل ويدعو إليه، سيما أن البشرية بلغت من الحال أقصاه تعصباً ونبذاً لما تحمل مكوناتها، وأصبح العنف والقتل هو الطريق الأكثر إغراء لإعلان الرفض لمن يختلف في فكره وقوله وعرقه...، وأضحى مقدار الدمار هو الوسيلة الأكثر تعبيراً عن مقدار الاختلاف والتباين عوضاً عن أن تكون هذه الأخيرة ثراءً وازدهاراً ونماءً وحضارة متجددة.
اسمح لغيرك وامنح من نفسك ما تريده من غيرك، فلن يُظفر سلاماً ولا رغداً بل ولا بقاءً بغير ذلك.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية