كفراشة تتنقل من مكان إلى آخر ولا تستقر في مكان لفترة طويلة كذلك أفكارها فأحياناً تفكر في أشياء سعيدة وأحياناً في أشياء سيئة سوداوية وصارت الأخيرة الأغلب على حياتها فحتى الأفكار السعيدة تجرها للقاتمة. ثلاثة أيام منذ أن استشهد أبوها، فيها اختزلت حياتها ماضيها، حاضرها، مستقبلها.. أفكارها بين مد وجزر أحياناً تهدأ وتستريح وتسكن وأحياناً وهي في الغالب تهيج وتعلو كطوفان تسونامي حتى تشعر أنه سيخرج من جسدها النحيل ليغرق ويحطم كل ما أمامه كلما طرأ أبوها على خاطرها.. جرت دموعها إثر تذكرها لأبيها على خديها ثم تدحرجت على ظهر يديها دون أن تنبس ببنت شفة أو تجهش بالبكاء، أحست بحرقة في عينيها وبحكة على خديها، وبشكل روتيني مدت يديها وبظهرهما مسحت دموعها بدءاً من خديها نحو الأعلى. هي لا تعرف ما هو الموت ولا ماهيته ولا آثاره، كل ما تعرفه هو مترتباته في أنها لن ترى أباها مرة أخرى وإلى الأبد، أغمضت عينيها كمحاولة لحبسه بين جفنيها فظهر أبوها على خاطرها كصورة متحركة لتظهر منه ابتداءً شفتاه المبتسمة ثم عيناه فأنفه يلي ذلك خداه وبلا شعور عاد دمعها يسيح على وجنتيها ويتساقط على كفيها وبدون صوت لنشيج أو إجهاش بالبكاء عادت ومسحت خديها وعينيها. آخر مرة رأت والدها منذ ثلاثة أشهر عند زيارته لهم في القرية، فبحكم أنه يعمل في المدينة وهي وأمها في الريف كانت لا تراه إلا بين الفينة والأخرى، وتذكر آخر مرة لنزوله القرية فقد كانت تلعب مع صديقاتها ولم تشعر إلا وهي في الهواء بفعل يدين قويتين، عرفته سريعاً من رائحته أيضاً ما من أحد يحتضنها عالياً سواه، وما أن وضعها على الأرض حتى أخذت تمطره بالقبلات وهو كذلك. لكن بعد أسبوع وكانت من أسعد اللحظات عاد للمدينة. يومها بكته وهي تلوح بيدها له وكذلك هو يلوح لها بيديه وهو يعتلي السيارة التي تقله إلى المدينة.. أغرورقت عيناها بالدمع وسالت على وجنتيها. كانت تتساءل دوماً لم لا ترى والدها باستمرار وتدعوه يومياً «أبي» كبقية أطفال القرية، من المسؤول عن غربتها عن أبيها وافتراقها عنه وعندما تسأل أمها كانت ترد عليها باقتضاب أبوك يعمل في المدينة، سرعان ما تمطر أمها بسيل من الأسئلة والاستفسارات أين يعمل؟ وماذا يعمل؟ ومتى سيعود؟ وأمها تتبرم من أسئلتها التي لا تنتهي فتفر منها نحو المطبخ أو للخارج وبدورها تخرج من الأسئلة والاستفسارات غير مقتنعة، وما أن يمضي أسبوع حتى تعود لاستفساراتها وأسئلتها التي لا تنتهي كحلقة مفرغة. «أبي» نطقتها بلهفة وبشكل لا إرادي وكأنها تحاول تعويض نفسها عن أيام غربتها من أبيها، عادت دموعها تسح على وجنتيها وتبلل خديها وتتساقط على ثوبها البالي، أحست بخدر وتنميل في رجليها فعدلت من جلستها لتجتر ذكرياتها مع أبيها في راحة. تساءلت من حرمها من أبيها؟ وما الجرم الذي اقترفه أبوها ليعاقب بالقتل؟ وهل قاتل أبيها له أبناء؟ وهل يحبهم؟ لم ترتقِ بأسئلتها أكثر من ذلك لصغر سنها وعاد دمعها يسيل على خديها وبصمت وبشيء روتيني عادت تمسح عينيها ووجنتيها.
بقلم/ عبدالعزيز العرشاني
اليمن. صنعاء