كتب - أمين صالح:
لانزال عند تجربة المخرج الاسباني لويس بونويل، وفيما يلي شيء من آرائه في السرد والكائن والمنجز...
في أفلامه الأخيرة (بالذات: سحر البورجوازية الخفي، شبح الحرية) استخدم بونويل تقنية سردية فريدة واستثنائية. كل قصة في الفيلم تفضي إلى أخرى وإلى أخرى وهكذا. وفي فيلمه «شبح الحرية» ليس هناك أي نقطة التقاء. القصص تنطلق ولا تعود أبداً، لا تلتقي عند نقطة معينة. ليس هناك توالٍ أو تعاقب للحبكة. نحن نبدأ داخل قصة ونتركها لنتتبع إحدى الشخصيات الثانوية في القصة، والتي ستصبح شخصية رئيسية في القصة التالية، ثم نتركها بدورها لنلاحق شخصية ثانوية أخرى.. وهكذا. يقول بونويل (1953): «السينما صارت تكرّس نفسها لمحاكاة الرواية أو المسرح. إنها تكرر القصص نفسها التي سئم القرن التاسع عشر من روايتها، والتي لا تزال مستمرة في الأدب المعاصر».
إيروسية: الجنس عنصر قوي جداً في أفلام بونويل لأنه محسوس أكثر مما هو مرئي. يقول: «أنا أؤمن بالإيروسية المحتشمة. تستطيع أن تعزو ذلك إلى تربيتي اليسوعية. اللذة الجنسية بالنسبة لي مرتبطة على نحو مباشر بفكرة الخطيئة، ولا توجد إلا في سياق ديني».
الكامن والمنجز: في حديثه عن قوة الصورة السينمائية، يستعير ما قاله الشاعر المكسيكي باث: «قال أوكتافيو باث ذات مرة، أن رجلاً مقيّداً بالسلاسل لا يحتاج سوى أن يغمض عينيه كي يفجّر العالم. بصياغة أخرى أقول: يكفي أن تعكس عين الشاشة الفضية الضوء الخاص بها، على نحو لائق، لينفجر الكون. لكن، في الوقت الحاضر، نستطيع أن ننام في هدوء وأمان لأن الضوء السينمائي الذي يصلنا هو مقيّد بعناية. ليس هناك فن، من الفنون التقليدية، يكشف عن ذلك التفاوت الهائل بين ما هو كامن وما هو منجَز مثل السينما». (Film Culture, Spring 1962)
مشاهدة: بعض المخرجين يعيدون مشاهدة أفلامهم المرة تلو الأخرى، من باب إعادة التقييم أو الاستمتاع أو الحنين، أو لأي سبب آخر. بونويل لا يحب ذلك..»ما إن ينتهي الفيلم حتى أفقد اهتمامي به، حتى أنني لا أشاهده».
النجاح والفشل: الجودة لا تتصل دائماً بنجاح العمل.. يقول بونويل: «السينما الجيدة نادراً ما تأتي من خلال النتاجات ذات الموازنة الضخمة، أو تلك التي نالت إطراءً نقدياً أو قبولاً جماهيرياً».
لا أقارن بالرسام جويا
في حديثه عن النقد يقول بونويل: «النقاد يقارونني بالرسام جويا. هذه نظرة سطحية جداً. النقاد يتحدثون عن جويا لأنهم يتجاهلون أولئك العظام الذين أنجبتهم أسبانيا. الثقافة، لسوء الحظ، أصبحت غير منفصلة عن القوة الاقتصادية والعسكرية. الدولة القوية صارت قادرة على فرض ثقافتها ونشرها عالمياً. فنانون من الدرجة الثانية، مثل إرنست همنجواي، شهرتهم جاءت نتيجة القوة الأمريكية. أما أسبانيا، فإن ضعفها يعني تجاهلاً عالمياً لأدبها المدهش».
بريشت
يقول ريمون دورغنات (في كتابه: لويس بونويل، 1967): «في انفصاله عن غنائيته الخاصة، بونويل يكون أكثر بريشتية من بريشت. هو لا يحتاج إلى مؤثرات التغريب، التي تبهجنا جمالياً عند التطبيق، بالتالي هي لا تغرّب نفسها. في نظرياته، بريشت كان بلاغياً، مولعاً باللغة المنمقة، وهو يدفع ثمن ذلك. بونويل لا يحتاج إلى مؤثرات التغريب لأن تعقيد شخصياته ومآزقها، وتحفظات أسلوبه، ترغم المتفرج على إصدار الأحكام الأخلاقية عند كل منعطف».
قالوا عن بونويل
أندريه تاركوفسكي (من كتابه: النحت في الزمن): لو اتجهنا الآن، من أجل توضيح فكرتي، إلى أعمال واحد من المخرجين السينمائيين الذين أشعر أنهم الأقرب إليّ، لويس بونويل، فسنجد أن القوة المحركة لأفلامه تكمن دائما في مقاومة الامتثال والخضوع. إنها ضد الإمتثالية. احتجاجه - الغاضب، العنيد، والموجع- يجد تعبيره قبل كل شيء في النسيج الحسي للفيلم، وهو مُعْدٍ عاطفيا. هذا الاحتجاج ليس مدروساً، ليس عقلياً، ليس معدّاً وفق صيغة فكرية. لدى بونويل الكثير من حاسة التمييز الفني التي تحول دون وقوعه في شرك الإيحاء السياسي، والذي هو في رأيي دائما زائف حين يتجسد على نحو صريح في العمل الفني. من جهة أخرى، الاحتجاج السياسي والاجتماعي المعبر عنه في أفلامه سيكون كافياً لعدة مخرجين من ذوي المكانة الأقل شأناً.
بونويل هو، قبل أي شيء آخر، حامل الوعي الشعري. إنه يعرف بأن البنية الجمالية لا تحتاج إلى بيانات بالأهداف والدوافع، وأن قوة الفن لا تكمن هناك بل في القدرة على الإقناع العاطفي، في طاقة الحياة الفذة التي ذكرها جوجول.
أعمال بونويل متجذرة بعمق في الثقافة الكلاسيكية في أسبانيا، المرء لا يستطيع أن يتخيله بدون ارتباطه الملهم بسرفانتس وإل جريكو، لوركا وبيكاسو، سلفادور دالي وأرابال. إن أعمالهم المشحونة بالعاطفة المتقدة، بالغضب والرقة، بالتوتر والتحدي، هي من جهة وليدة حب عميق للوطن، ومن جهة أخرى نتاج كراهية شديدة للبنى الميتة، وللاستنزاف الوحشي، الموجع، للأدمغة. إن مجال رؤيتهم، المتقلص بفعل الكراهية والازدراء، يستوعب فقط ما هو متقد وزاخر بالتعاطف الإنساني، والوميض السماوي، والمعاناة الإنسانية المألوفة، وتلك الأشياء التي لقرون قد تسربت في الأرض الأسبانية الصخرية، الحارة.
حيل رائعة
بيرجمان: «عن طريق بونويل اكتشفت حبي للسينما. إنه لا يزال الأهم والأعظم من وجهة نظري. إني أؤيد تماما نظريته حول الصدمة البدئية لاجتذاب اهتمام الجمهور. (..) لم أكن قادراً على تقدير بونويل حق قدره. هو اكتشف في مرحلة مبكرة أن من الممكن اختراع حيل حاذقة وبارعة، تمكّن من رفعها إلى نوع خاص من النبوغ، خاص ببونويل، ثم راح يكرر حيله وينوّعها. ودوماً يتلقى الإطراء والتصفيق. بونويل حقق دوماً أفلاماً بونويلية. لذلك فقد حان الوقت لأن أنظر إلى المرآة وأسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟ وهل بدأ بيرجمان في تحقيق أفلام بيرجمانية؟»
(من كتابه: Images, My Life in Film, 1990)
جان لوك جودار: «بونويل يعزف على السينما مثلما كان باخ يعزف على آلة الأرْغُن».
توني ريتشاردسون: «أنبياء السينما قليلون ووحيدون، وليس هناك من هو أكثر ضخامة من الإسباني بونويل». (Sight and Sound, Jan- Mar. 1954)