كتبت - رنوة العمصي:
جمع المفكر المغربي د.عبد الإله بلقزيز مقالاته للعام الماضي، والتي تناولت ما أُسمي بالربيع العربي، منذ انطلاقة شرارته الأولى من سيدي بوزيد التونسية. المقالات تحمل تفاعل بلقزيز مع الأحداث بمعطيات لحظتها، وإن لحقها استدراك أو توضيح في مقال آخر نتيجة تطور الأحداث واختلاف المعطيات، لكنه حافظ على نشرها كما هي وبتاريخها.
وضع د.بلقزيز في مقدمة كتابه ثلاثة أسس نظرية أو موجهات للتفكير كما أسماها، تشكل الأرضية التي سيتناول من خلالها الأحداث، بحيث يتمكن القارئ استناداً إليها من فهم مواقف بلقزيز من الثورات والانتفاضات الشعبية العربية.
أولاً: مفهوم الثورة في وضعه الاعتباري، الذي يعني التغيير الجذري للنظام الاجتماعي، الاقتصادي وليس السياسي وحسب، فلا يكفي أن تسقط نخبة سياسية حاكمة وتحل محلها نخبة جديدة، ولو بطريق الانتخاب السياسي الشرعي حتى يصح تسمية هذا التغيير بالثورة.
ثانياً: أن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع فحسب، وليست محض انتخابات وأغلبية وأقلية وتوازن سلطات، إنما هي -فوق ذلك- اتفاق وتعاقد على مشروع مجتمعي وعلى نظام سياسي مدني، وتوافق على مشتركات في المجتمع الوطني.
ثالثاً: تتلخص في قول بلقزيز «إن أصالة أية ثورة إنما تأتي من استقلالية إرادتها وقرارها ومن وطنية القائمين عليها، وارتفاعهم عن شبهة الارتباط بالأجنبي تحت أي عنوان، ولو كان باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان».
تونس ومصر..
ثورتــــان وأزمــــة
بدىا بلقزيز داعماً ومتفائلا بالثورتين التونسية والمصرية اللتيان احتازتا النصاب الشعبي احتيازاً كاملاً -حسب تعبيره- فلم تكونا ثورة طبقة أو فئة اجتماعية بعينها، ولم يكن للثورتين حزب سياسي أو تحالف أحزاب يقودهما، ولم ينهض فيهما رجال الدين والحزبيين الإسلاميين بدور قيادي أو توجيهي، وبدا ساخطاً على النظامين السابقين التونسي والمصري اللذين ظنا أنهما في أوج قوتيهما وأن شيئاً لن يمس سلطتيهما المطلقة قائلاً: ليست حالنا، نحن الشعوب والنخب غير الحاكمة، مع هذا العجز الفادح في التوقع أسوأ من حال النظم الحاكمة؛ لم تكن أحزابنا ونقاباتها ونخبنا ومراكز الدراسات الأكاديمية عندنا وحدها من فوجئ بالثورة ووقف أمام سيلها الجارف مذهولاً؛ أنظمتنا السياسية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية شاطرتنا العجز نفسه والتوقع».
التحليل السياسي
والنفسي للثورة الليبية
لم يختلف موقف بلقزيز من الثورة الليبية عنه في الثورتين التونسية والمصرية في حين ذهب في تحليله لها إلى الجانب النفسي للقذافي ورأى أن التحليل النفسي له لا يقل أهمية عن تحليل الوضع السياسي في هذه الحالة العربية الخاصة خصوصية شخصية الحاكم العربي.
يقول بلقزيز في تحاليله النفسية لسلوك القذافي تجاه شعبه: «لا يستطيع العقيد الليبي أن يتخيل، وللحظة، أن في ليبيا من يمكن أن يتظاهر ضده ويطالب برحيله، فكيف إذا كان المتظاهرون بالملايين لا بالعشرات والمئات! ولذلك، هو لا يكذب في خطبه -مثلما اتهمه المتظاهرون- حين يقول إن أية مظاهرة لم تخرج في بنغازي ودرنة والبيضاء وغيرها من المدن تهتف ضده، مثلما تتناقل وسائل الإعلام بالصوت والصورة، وإنما خرجت تؤيد «ثورة» الفاتح وزعيمها! وليس قوله هذا من باب نقص في المعلومات لديه، وحجب لها عنه من قبل من يحيطون به، وإنما يُرد إلى صورة كونها العقيد عن نفسه وصدّقها، وبات أسيراً لا يستطيع من قيدها فكاكاً».
لكنه في الوقت نفسه اعتبر أن ما تتعرض له ليبيا من ضربات عسكرية لا ترضي وطنياً، أياً كانت درجة كراهيته للطاغية باعتبارها ضربات تنفذ بآلة أجنبية لا يهمها بأية حال حماية الشعب الليبي ومقدراته، وقال إن هذا التحرك كان ممكناً بقرار عربي وسلاح عربي أسوة بقرار الجامعة العربية في مؤتمري القاهرة والرياض (1976) واعتبر أن: «دعوة المجلس الوطني الليبي القوى الدولية للتدخل بدلاً من دعوة العرب إلى إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا… وفر للقذافي وعصاباته فرصة للطعن في وطنية المعارضة والنيل من صورتها لدى جمهور عريض من الليبيين والعرب ومنهم اليوم من بات يشبهها بالمعارضة العراقية السابقة المتعاونة مع الاحتلال».
الثورة السورية
والحامل الاجتماعي
يميل بلقزيز في تناوله للحالة السورية إلى الظن بأن الشعار الأنسب هو الإصلاح السياسي، وأن المطالب الراديكالية التي تذهب إلى حد تغيير النظام لا تملك الحامل الاجتماعي الداخلي الذي يسعفها بالتحقق، وقدم بلقزيز هذا الرأي منذ مايو 2011، أي قبل ما يزيد عن ستة أشهر من الآن، غير أنه أدان التعامل الأمني مع المطالب الشعبية، ومواجهة المتظاهرين بالقوة من قبل النظام، ودعا قوى المعارضة للتحلي بالوطنية وقبول الإصلاحات والبناء عليها.
ووجه خطابه في أحد مقالاته للرئيس بشار الأسد، يطلب منه أن يقدم على قرار شجاع قد يكون مؤلماً لغيره ممن لا يريدون الإصلاح، وطالبه بأن يكون قائداً تاريخياً في لحظة تاريخية كالراهنة.
الثورة اليمنية وحدة وسلمية
عبرت مقالات د.بلقزيز عن دعم كلي وإعجاب شديد بالثورة اليمنية وأيد رأيه بـ:
- أنها ثورة وحدت مجتمعاً سياسياً مجزءاً ومفتتاً، بل وتمكنت من اختراق تكتلات المعارضة القديمة واجتذابها لساحة التغيير وانتزعت المجتمع الأهلي من توازناته واصطفافاته العصبية وصراعاته القبلية، إلى وحدة العمل السياسي العصري.
- نظافة الثورة اليمنية وسلميتها ووطنيتها وقرارها المستقل عن عواصم العالم ومجلس الأمن، وغيرها من وسائل التدخل الخارجي بل واستعصاء (الثورة) على الاختراق الخارجي حسب تعبيره.
المغرب ونداء الإصلاح
اعتبر د.عبد الإله بلقزيز أن النظام المغربي هو أكثر الأنظمة العربية تجاوباً مع طالب الشعب بالقدر الذي اختصر المعاناة على البلد وتضمن الحد الأدنى الضروري للإصلاح السياسي والدستوري، معتبراً أن الموقف المغربي الرسمي المتجاوب كان موقفاً ناضجاً ومسؤولاً بصرف النظر عما إذا كان يلبي كامل مطالب الإصلاح، وعلى قوى المعارضة بالمقابل أن تكون شريكة في تحقيق وعود السلطة حتى وإن كانت وعود السلطة غير كافية، معللاً ذلك بقوله: «ليس من الحكمة ولا من السياسة تحويل ما هو غير كافٍ إلى غير مقبول».
ويختتم بلقزيز بمجموعة من المقالات تشرح عبارته التي تقول: «أسوأ شيء أن يناضل المرء من أجل قضية عادلة بعقل مغفل، فتأتي ثمرات نضاله لتقع في سلال آخرين». ويرى أن ملايين الشباب العربي لم يكونوا يتوقعون أن تنتهي (ثوراتهم) -ووضعها بين قوسين- إلى هذا الحصاد السياسي المتواضع بل الهزيل، حيث صبت الانتفاضات والثورات رصيدها لدى من لا تحسبهم القوى الشبابية حلفاء ولا من قوى الثورة، صبت معظمها لدى التيارات الإسلامية، التي استهلكت في البداية مقولة (الدولة المدنية) مجاراة للعلمانيين والشباب وطمأنة لهم، وما لبثت أن شددت على مرجعية الشريعة في التشريع، وعليه يرى د.بلقزيز أن حلفاء الأمس لأجل إسقاط نظام ينبغي إسقاطه، أصبحوا خصوماً في معركة جديدة من أجل بناء نظام سياسي ينبغي بناؤه.
وأن الدساتير التي ستتمتع بالشرعية هي الدساتير التي تحظى برضا المنتصرين كلهم، ذلك أن شرعية المنتصر في الاقتراع ليست أعلى من شرعية المنتصر في الثورة.