كتبت نورة عثمان:
كثير من البحرينيين، والشباب خصوصاً، يحبون قضاء إجازاتهم الأسبوعية بالترفيه عن أنفسهم في المجمعات، وما تعنيه "المجمعات" من اختصار لمجموعة نشاطات تشمل غالباً التسوق ومشاهدة أحدث أفلام السينما وتناول وجبة في المطاعم أو جلسة لوجبة خفيفة في "الكوفي شوب"، أو مجرد "تمشيّ" لإضاعة الوقت و"الطماشة".
ولا غضاضة فيما سبق، لكن هناك أنشطة مناسبة للـ"ويكند" يغفل عنها هؤلاء، ومنها التجول و"التمشيّ" في "دواعيس" (أزقة) المحرق، في المنطقة التي تضم البيوت القديمة ويفصلها عن التسوق بالروح المحرقية في "القيصرية" شارع واحد.
تبدأ الجولة التي تعتبر جزءاً من السياحة الداخلية من غرب مسجد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حيث يمكن إيقاف السيارة في المواقف الخاصة هناك، وتنطلق مشياً على الأقدام إلى بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة.
أول ما يلفت الانتباه في البيت مساحته الواسعة التي تعكس طبيعة مجتمعية بحرينية قديمة تتمثل بلمة العائلة الكبيرة من أب وأم وأجداد وأحفاد في بيت واحد يتقاسمه الجميع، وينقسم البيت لثلاثة أجزاء: بيت العائلة، وملحق الضيوف، وملحق الخدم.
ولا بأس إن تهت بين أروقة المنزل، ففي النهاية ينطبق عليه قول "كل الطرق تؤدي إلى روما" بل كل الطرق تؤدي إلى البهو الرئيسي.
وتتميز الجولة أكثر إن كان ضمن فريق المتجولين صغار فضوليون يسألون كثيراً عن أسماء أجزاء المنزل التي يفتقدونها في المنازل الحالية ومنها "الروشنة" وهي فتحة في الجدار لتخزين الأغراض، و"الخوخة" وهي باب صغير ضمن باب المنزل الكبير، يفتح للدخول أو الخروج عوضاً عن الباب الكبير الذي يصعب تحريكه نظراً لثقله وكبر حجمه ولا يمكن الاستغناء عنه لروعة زخارفه.
وتشارك الجدران باب البيت بزخارفها، التي تكتسي جزءاً من الغموض حينما يتداخل بها الظل مع أشعة الشمس بشكل يدفع الخيال للتساؤل: "أي قصص وسوالف سمعتها هذه الجدران؟".
بعدها بخطوات، تصل لبيت "سيادي" الذي تجري فيه أعمال صيانة حالياً، لكن أجزاء الجدران المتهاوية تدفع للإصرار على معرفة سر هذا المنزل القديم، سر قد تحكيه حمائم اتخذت منه منزلاً ولم تفارقه إلى اليوم.
قهوة "بوخلف" تمزج التراث بالاقتصاد، فلابأس من الاستمتاع بشاي "مهيّل" كما تسميه القائمة المكتوبة على جدرانها مع الاستمتاع بطرب أصيل من راديو قديم خشبي يسبح بخيال يأخذك لحقبة قديمة توثقها الصور الموجودة على الجدران، وقبل المغادرة، يصطادك دليل الزوار لتكتب انطباعك عنها، انطباع يوصف بأنه "عشق أبدي.. يمتزج بهوى محرقي.. به من روح بوخلف".
عن يمين مدخل القهوة يأخذك "داعوس" إلى متاهة "دواعيس" تجد بينها ما لا تتوقعه، وأغرب ما تجد، "حديقة مائية" تزين أحد أركان البيوت" تتوسطها أعمدة رخامية، تفند ادعاء من يقول أن المزج بين التصميم القديم والحديث لا يمكن أن يكون جميلاً.
وغريبة أيضاً لوحة معدنية بارتفاع المنازل، تختبئ في زاوية ضيقة وتحكي قائلة: "ألف.. ميم"، لكن ماذا تعني "ألف.. ميم"؟
الجواب يتضح بمواصلة الجولة، حينما تصل لبيت الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وتجد نقشاً لبيت شعر في واجهته يبدأ بالألف وينتهي بالميم هو: "أروم من الأيام ما لا يروم سواي** وقدر المرء ما هو رائم"، وترى البيت منقوشاً بشكل دائري جميل في أكثر من لوحة إرشادية بالمكان، التي تقودك أيضاً لبيت مؤسس الصحافة البحرينية عبدالله الزايد وبيت القهوة.
وقد يحدث البعض نفسه متسائلاً: "أنا أعرف تراث بلدي وأعرف تاريخه وقديمه، فلم أزور هذه المناطق؟"، الإجابة باختصار: لأنك حينما تكون هناك ستحس بالفعل أنك "قريب غريب"، قريب لكونك بحرينياً تعد المحرق جزءاً منك وإن لم تكن محرقياً، وغريب لأنك بالمعاينة الفعلية للمكان، تجرب شيئاً جديداً وإن كنت تعرف الكثير عنه من قبل.
على بعد خطوات، يحتض سوق المحرق سوق "القيصيرية القديم"، سوق مسقوف بـ"الجينكو" (الصفائح المعدنية) على جانبي ممراته تصطف المحلات التي يتداخل فيها القديم بالحديث، فبعضها مازال متمسكاً بروحه القديمة المتمثلة بالبائع والمبيع، بائع خط الزمن تجاعيد وجهه، ومبيع غطى الصدأ تفاصيل ثنياته، وغالب المبيع القديم "منافض ماء الورد" و"دلال الرسلان"، و"أثواب الكورار".
أما المحلات الحديثة فمنها صنفان، حديث سرق الطابع الشعبي للسوق وأبدله بمحلات يديرها آسيويون يبيعون بضائع مختلفة من ملابس وعطورات وأواني نحاسية و"متاي"، وأخرى ذات لمسة مميزة اتخذت من المباني القديمة أساساً لها وأضافت لها طابع ديكوراتها الحديثة.
في السوق، تسرق سمعك صرخات مفاجئة تكتشف أن مصدرها مجموعة كبار سن مجتمعون في قهوة شعبية يتابعون شريط فيديو لمباراة مصارعة حرة معادة مرات ومرات، لكن لازلت الصرخات التشجيعية والحماس موجودان، ويخبران عن لمة تسودها المحبة مختبأة وسط هذا السوق.
ومجموعة أخرى من كبار السن تجدها جالسة على عتبات محل مغلق تتبادل الأحاديث، وباستراق السمع، لا تملك إلا أن تضحك على "تحلطم شيّاب" خفيف الظل حول كل ما يخطر ببالك بدءاً من سعر الطماطم وحتى علاقة اتفاقية سايكس-بيكو بالوضع الحالي لمصر، وإن دفعك الفضول للمشاركة في الأحاديث وكنت من الجيل الذي لم يتجاوز الثلاثين، فالتأكيد سيطالك "الراش" من انتقاد لجيلك وتصرافته مصحوباً بمقارنة مع جيلهم.
مجموعة ثالثة من كبار السن تجوب السوق ذهاباً وإياباً، لا لشيء سوى لأن "القعدة كسرتهم ويبون يطلقون رويلاتهم"، و"التمشيّ" تصحبه دندنة للأغنية المحرقية المشهورة التي كتب كلماتها الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وغناها الفنان إبراهيم حبيب "ولهان يا محرق".
ولهان يامحرق.. وآدور في السكّة
محد عرفني فيج.. يامحرق شدعوه
خلّي اللي واعدني.. عقب البراحة ببيت
نطرته طول اليوم.. واقف ولامليت
ايش فيه خلاني؟؟
حاير ولا جاني؟؟
ومحد في المحرق.. اببيته دلاني
محد عرفني فيج.. يامحرق شدعوه
والله لادوّره.. وادور في الفرجان
وأقول ياأهل الخـــــــــير.. راعي النشل مابان
نيشـانه حبه خـــــال.. وعيونة سود كبار
في كل المحرق.. مثله أبد ماصار
محد عرفني فيج.. يامحرق شدعوه