ترجمة ـ أمين صالح:
أسلوب المخرج الفرنسي باتريس ليكونت متناسب جداً مع اهتمامه المتكرر بالطبيعة المتناقضة ظاهرياً، والعلاقة الحميمية وسط عزلة الحياة المعاصرة، تناقض يجد تعبيره البليغ في عنوان أحد أفلامه «غرباء حميمون» 2004. سواء من خلال المحادثة كما في فيلم «الرجل في القطار» 2002، أو عبر تبادل النظرات السريعة في «مسيو هاير» 1989، و»زوج المزيّنة» 1990 و»أرملة سان بيير» 2002، أو على نحو أكثر غرابة، من خلال التصويب الشعائري للسكاكين كجزء من فعل كرنفالي في فيلم «فتاة على الجسر» 1999، عبر كل هذا فإن الحميمة تنبثق أو تنشأ حتى لو كانت هشة مؤقتة سريعة الزوال، وتدمغ النفسية الإنسانية على نحو متعذّر محوه أو إزالته أكثر من الفعل الجنسي.
مع أن نقاده يوجهون إليه أحياناً تهمة معاداة النساء وكراهيتهن، عندما تنهمك شخصياته الذكورية في التخيلات التلصصية «فعل اختلاس النظر» خاصة في أفلام مثل مسيو هاير، زوج المزيّنة، إلا أن باتريس ليكونت يدقّق النظر في الفعالية التلصصية، ما يفضي إلى أفلام متعددة الطبقات واستبطانية في آن، مثل أفلام هتشكوك الذي غالباً ما يقارنه النقاد به.
إن لوحات ليكونت البارعة ذات الأوجه المتعددة عن الرغبة البشرية أو خيبة الأمل، تضاهيها على نحو متساو أنماط دقيقة ومركّبة من التكوين والمونتاج والتأليف الموسيقي.
غالباً ما يُنظر إلى ليكونت بوصفه «مخرج الممثل» أي المخرج الذي يعرف كيف يدير ممثليه، إنه يستنبط أداءات ذات فوارق دقيقة لا تكاد تُدرك سيكولوجياً وعاطفياً، خاصة من أولئك الممثلين أمثال ميشيل بلان وجان روشفور ممن شكّل معهم تعاوناً مثمراً طويل الأمد. مع أكثر من 20 فيلماً في رصيده، استطاع ليكونت أن يرسّخ نفسه واحداً من أكثر المخرجين الفرنسيين تنوعاً في موضوعاته وأشكاله. تخرّج ليكونت من المعهد السينمائي «الإيديك» عام 1969، وعمل رساماً كاريكاتورياً لإحدى المجلات قبل أن يحقق فيلمه الأول «المراحيض كانت مقفلة من الداخل» عام 1975، وهو عبارة عن محاكاة تهكمية للنوع البوليسي في الأفلام الفرنسية الرائجة، قدّم بعدها عدداً من الأفلام الهجائية الساخرة أحرزت نجاحاً جماهيرياً. في فيلمه الناجح «مسيو هاير» يؤدي ميشيل بلان دور رجل انعزالي، تخيلاته الجنسية تهيمن على حياته، وينهمك في تلصصية فاضحة، عازفاً الموسيقى ذاتها كل ليلة بينما هو على نحو طقسي يتجسس على جارته «أليس» التي أبداً لا تسدل ستائرها.
عندما تجتاز أليس بجسارة الفضاء التلصصي لدى ملاحظتها حضوره، فإن هاير يصبح خائفاً وراغباً في التورط معها في آن واحد، ما تبدو في البداية أنها علاقة حميمية حرجة، تتطلب شيئاً من الحذر، لكن نامية بين الإثنين، يتضح في الواقع أنها مناورة تقوم بها أليس للإيقاع به في الشرَك كطرف مذنب في جريمة ارتكبها صديقها.
وفيما يتدلى هاير من مزراب السطح في ذروة الفيلم، بعد مطاردة الشرطة له، لا يكون بوسع المرء إلا أن يشعر بأن قصته تنتهي حيث تبدأ قصة جيمس ستيوارت في فيلم هتشكوك «دوار»، معلقاً ومصعوقاً بفعل شراك التلصصية والنزوع الاستحواذي. الاستحواذ في «زوج المزيّنة» مترسخ في الطفولة، حيث نرى أنتوان المفتون في منتصف العمر، يختلق الأعذار ولا يفوّت أي فرصة لزيارة المزيّنة، متنفساً بعمق في حضورها فيما هي تغسل وتشذب شعره، طموحه في الحياة أن يكون زوج المزيّنة، وهذا الطموح يتحقق عندما يجد ماتيلدا، المزينة الشابة الجميلة، وتقبل عرضه المفاجئ بالزواج رغم أنها بالكاد تعرفه، علاقتهما تكون مثالية، رومانسية، ناعمة، حتى تنهي ماتيلدا حياتها بالانتحار نتيجة شعورها بالخوف من الشيخوخة، من أن تكبر وتصبح عجوزاً فيسأم منها زوجها أنتوان.
بنية الفيلم الانطباعية، المتحولة على نحو يتعذّر التنبؤ به في الزمن والمكان، تخلق نوستالجيا موجعة، بينما توضح حقيقة أن تخيّل أنتوان هو تخيّل طفولة، وأن مثل هذا التخيّل ـ حتى عندما يوفّر حميمية قصيرة الأجل ـ يكون في آن واحد النتاج والسبب لعزلة يتعذر ترميمها.
في التباسات حبكته، وتصويره المؤسلب بالأسود والأبيض، فإن فيلمه «الفتاة على الجسر» يأسر خاصية مماثلة، شبيهة بالحلم، عندما يقوم جابور، البارع في التسديد بالسكاكين، بالتدخل فيما «أديل» ترمي نفسها من على الجسر. في إنقاذه لهذه الغريبة، يكون جابور أنقذ نفسه ـ إذ ربما كان هو على الجسر لحظتها لغاية مماثلة ـ ذلك لأن مظهرها يلهمه في إنعاش الفعل الذي يمارسه في الكرنفال، عارفاً أنها ستكون مثالية للدور. فيما هو يقذف السكاكين نحوها بطرق تزداد خطورة في كل مرّة، الإثنان يكونان مرتبطين بعاطفة حميمة، مراوغة، مدمّرة للذات، مع ذلك هي قوية في غياب التعبير الجنسي الحرفي التناقض الظاهري يتعمّق ويزداد حدّة بفعل الطريقة الحلمية في توزّع الضوء والظل. هل ظهرت أديل على الجسر لتنقذ جابور في اللحظات الأخيرة من الفيلم مثلما هو أنقذها في البداية؟ أم أنه ببساطة يتخيّل حضورها؟ مثل هذه الأسئلة تتريّث، تنصب في مناخ الفيلم مع إحساس باللحظات المعاشة والمفقودة في آن.