كتب


ـ إسماعيل الحجي:
يصدم ممدوح عدوان في كتابه «حيونة الإنسان» القارئ، عندما يضعه وجهاً لوجه أمام حقيقة فاجعة ورهيبة، كيف يتحول الإنسان إلى وحش مفترس؟ لا منطق يحكم تصرفاته، يمارس أقسى أنواع التعذيب على بني جنسه دون أن يرف له جفن، وأخيراً يضع رأسه على الوسادة وينام ولا يشعر حتى بتأنيب الضمير.
لا يعرض عدوان نظرية في فن القمع الإنساني عبر التاريخ، بل يحاول تصوير «أي عملية انحطاط وتقزيم وتشويه تعرض لها الإنسان، بدل أن يكون جديراً على نحو ما بجنة فقدها، أو كمال خسره، أو مدينة فاضلة رسمها أو تخيل وجودها».
يثير «حيونة الإنسان» مسألة في غاية الحساسية ـ ليس بأسلوب الباحث بل بعقلية الأديب ومزاجه ـ وينبه الإنسان إلى خسارته الكبيرة حين «يدرك أنه يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان، ويقاوم في سبيل ذلك وتتخذ مقاومته نوعاً من أنواع الجنون».
لا يغفل ممدوح عدوان في بحثه «الأدبي» عن اقتباس مقاطع من قصص وروايات وشهادات لمن عاصروا ويلات الحروب، وجربوا مآسيها، وعايشوا أي درك ينزل إليه الإنسان عندما يتحول إلى مخلوق آخر هو بالحيوان أشبه.
ويقتطف عدوان من رواية «وراء القضبان» لكارل تشيسمان «اكتشف هو وزملاؤه آلاف الجثث اليابانية كانت ممزقة ومتحللة، وكان النتن الهائل المتصاعد منها يمنع هؤلاء الرجال من الراحة والنوم والأكل، بعدها ألِف الرجال ذلك وصاروا يستخدمون رؤوس اليابانيين بعد معالجتها، حيث يكشفون الجمجمة الملساء الملتمعة، ويستخدمونها زينة لمكاتبهم».
ويدهش عدوان ـ وهنا الاقتباس من رواية «أعدائي» ـ «تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا»، ويشير إلى حالة الرضى أو عدم المبالاة على أقل تقدير، حين يرى الإنسان مشاهد حية عنيفة لأبشع صور التنكيل والتعذيب والقسوة والوحشية التي يمارسها إنسان ضد آخر لم يعترض طريقه يوماً.
يبدو الكاتب وهو يقارب موضوعاً فريداً ـ على المستوى البحثي على الأقل ـ مأسوراً بالقصة الشهيرة ليوسف إدريس «العسكري الأسود»، وكيف تنقلب الأدوار ويتحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية، في مشهد يعكس حجم الترسبات التي تخلفها قسوة التعذيب من إذلال وانكسار ومهانة، تتحول في لحظة إلى قوة طاغية تكشر عن أنيابها، قوة مفترسة متوحشة قادرة على دق عنق طفل صغير بضربة سيف واحدة «أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حراً أن ترده، أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه، هناك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة، إنما بألم المهانة».
ويقدم عدوان للقارئ تجربة أجراها الدكتور ستانلي ملغرام في جامعة ييل الأمريكية «إلى أي مدى يمكن أن يصل الإنسان في إيقاعه الأذى بإنسان آخر، وهو الذي لا تربطه به أي رابطة سلبية أو إيجابية؟.
ويكون الجواب الصادم أن أكثر من 60% من سكان الولايات المتحدة يصلون إلى أقصى الحدود المفترضة «القتل» طالما أن هناك سلطة يحترمونها أو يخافونها، توجه إليهم الأمر بذلك».
لا يكتفي عدون ببيان الحيف الذي يلحق بالضحية في كافة الممارسات العنيفة، بل يسبر غور صاحب الفعل العنيف نفسه، وكيف تدنى إلى هذا المستوى من الدناءة والوضاعة والخسة، كي يعاقب ويهين ويعذب ويقتلع أظافر شخصاً آخر لا يعرفه، لمجرد أنه أوكل بالمهمة، ولا خيار لديه سوى تنفيذها.
حاول الكاتب بلورة رؤية حيال موضوع تحول الإنسان إلى حيوان، وكيفية تبادل الأدوار في المجازر الجماعية، وإعدام أسرى الحروب، وكل أنواع المآسي التي يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان، وفي مجزرة صبرا وشاتيلا يكتفي بشهادة طبيبة فرنسية «كانوا يدفنونهم أحياء، يربطون الفتى بسيارتين تسيران باتجاهين مختلفين، كانوا يقتطعون من اللحم البشري بالسكين، ويضعون اللحم المدمى بفم صاحبه، تراهنوا على من يقتل أكثر في دقائق معدودة، والخاسر كان يجرب حظه في مباريات جديدة».
يصور عدوان بإسهاب كيفية صناعة وحش بشري، يقتل بني جنسه ويعذبهم دون سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس رغم ذلك بالرضى التام وربما بالابتهاج ويقتبس من كتاب التعذيب عبر العصور عبارة «الوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والرضى، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تستنبط متعة جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم» من يفعل ذلك هو الإنسان فقط.
ويشير عدوان إلى دراسة عن الاغتصاب نشرتها مجلة التايم عام 1983، من خلال بحث بين مرتكبي جرائم الاغتصاب أن الجنس ليس وحده ما يحرك المغتصب بل «الاغتصاب هو التعبير الجنسي عن العدوانية»، وتبين أن معظم هؤلاء المغتصبين ينظرون إلى الفعل الجنسي ليس فقط على أنه مفرج عن الكبت، بل يحط من قدر الطرف الآخر أيضاً.
وينقل الكاتب عن التعذيب عبر العصور وهو يصف حرق إنسان «رائحة اللحم المشوي كانت شديدة حتى ملأت جو المحكمة كله، وأثير الجمهور بالعرض الوحشي الذي يجري أمامهم، إلى درجة أنهم انتشوا وبدأوا يتضاجعون على الأرصفة».
توفي ممدوح عدوان يوم 19 ديسمبر 2004، ولم يتسنَ له أن يعيش ثورات الربيع العربي، ولو عاشها لكان أدرك أنه بـ»حيونة الإنسان» كتب سيناريو لسلسة أفلام رعب أخرجته بعض الأنظمة بأبطال حقيقيين، وحققت الأفلام أرقاماً قياسية بنسب المشاهدة لا يتصورها عقل.