يضع القاص والروائي محمد عبدالملك، إصبعه على مكامن الإحباط لدى المثقف العربي «من الطبيعي تماماً أن يُصاب المبدع العربي بالإحباط، ومن غير الطبيعي ألا يصاب، فالظروف المحيطة التي تسيِّج المبدع -وهي نفس الظروف التي يواجهها الإنسان العربي- تجره من نحره إلى القلق الشديد، والخوف على الأمة».
ويرى أن المحيط العربي المتدهور برمته عدا استثناءات قليلة ظهرت مع الربيع العربي «لكن حتى الربيع العربي بدا مرتبكاً أمام فداحة الخريف العربي.
ويدعو عبدالملك لاستلهام العبر من التاريخ العربي القريب «في عام 1967 صعقتنا النكبة، وذهبت الأمة من ذلك الوقت إلى التدهور الشامل، وأمعنت في الفساد، والانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي».
ويعتقد أن المبدع العربي محكوم في بحر الإحباط المظلم لفترة أخرى من الوقت، ومعها يبقى القلق رفيقاً سيئاً وشرساً للمبدع العربي «على مستوىً أخر، المبدع غريب في مجتمعه، منعزل عزلة قسرية، ومن المثير للدهشة، أن يكون سبب العزلة، الجماهير ذاتها التي يدافع عنها».
ويشير إلى أن الجماهير المغيبة وعياً لا تتواصل مع الإبداع «بينها وبين الإبداع قطيعة مستمرة، والدراسات العالمية عن القراءة في العالم بينت أن القارئ العربي قارئ سيء، والمبدع العربي أول المتضررين».
لم ندخل الحضارة بعد
يُرجع الكاتب والمؤلف حمد عبدالرحيم الشهابي سبب إحباط المثقف العربي، إلى عدم أخذ الإنسان العربي بأسباب الحضارة، وعدم قبوله الدخول فيها.
وسبب الإحباط عنده أن «العالم العربي لم يبلغ الحضارة بعد، والتي تعني الإدراك والوعي والتعاون الإنساني، فالمثقف العربي كي يبدع، يحتاج إلى بيئة طيبة ونظيفة ومشجعة، وخالية من العنف والقلق والإرهاب ومن كل أشكال الإرهاصات الاجتماعية التي تقتل الإبداع في داخله، إن رجوع الإبداع رهن بتحضر الإنسان العربي، وأخذه بأسباب الحضارة الحديثة».
من الأمور الباعثة على الإحباط للمثقف العربي «لحد الآن لم يستطع الحصول على حقه الأدبي، ناهيك عن حقه المادي، ولا يريدون من المثقف أن يتحدث عن أشكال الإحباطات التي يتلقاها كصفعات في الوجه».
ويتساءل الشهابي «لا ندرك واقعاً متى سيأتي ذلك اليوم الذي يُنصف فيه المثقف العربي، ويأخذ كامل حقوقه الأدبية والمادية؟».
الناقد البحريني أحمد المناعي يُرجع كل إحباطات المثقف العربي إلى التعامل السلبي للأنظمة العربية معه، وتضييق الخناق على إبداعاته ومصادرة حرياته.
ويرى السبب الرئيس في إحباط المثقف العربي «في السياسات الخاطئة التي تنتهجها الأنظمة مع هذه الشريحة من المجتمع، وبسبب سوء إدارتها لحركة المجتمع، يقع حينها العبء الأكبر على عاتق المثقف الذي يظل يعاني من الإهمال والتهميش، لأن ما يقدم له من عون أو رعاية ظاهرية لا يتسم بالجدية والصدق، فوراءه نوايا غير سليمة المقصد، إخضاع وسلب حرية المثقف».
ما يرتجيه المثقف هو أن تكون الرعاية صادرة عن احترام حقيقي لحريته وكرامته «المثقف أو أي مبدع أومنتج في حاجة دائمة لمزيد من الحريات ورفع سقفها كي يبدع ويستمر في الإنتاج».
ويشير المناعي إلى أن نظام الحكم في الوطن العربي لا يؤدي الدور المنوط به في تشجيع الإبداع وبناء مؤسساته «لأنه لا يعتبر المثقف والمبدع عناصر فاعلة في المجتمع، وبعضها يراه عنصراً مزعجاً وهداماً، لذا نجد الأنظمة تركز فقط على إقامة مراكز جديدة أو تعمير أبنية تراثية وتزويدها بأنشطة ثقافية وقتية للمتعة والفائدة، جمهورها من النخبة المتكررة الوجوه، وأيضاً تقدم معونة مادية محدودة لبعض الكتّاب». ويقول «لا توجد بالمقابل مؤسسات ثقافية أهلية تعمل بنشاط أو تكون شريكاً فاعلاً فيما تقدمه المؤسسات الرسمية، إلى جانب ذلك أيضاً لا يوجد اهتمام بما تكتنز به البلد من ثروات ومقتنيات ثقافية وفنية محفوظة لدى جمع كبير من رواد الثقافة والفن وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات الشعبية».
ويرى المناعي أن هناك تجاهلاً مقصوداً لدور الأشخاص والمؤسسات الأهلية يتمثل في احتكار العمل الثقافي، وعدم إعطاء تلك المؤسسات دوراً أساسياً في بناء الثقافة وترسيخ أسسها، والحقيقة أن الوجه الحضاري لأي بلد هو ما تقوم به المؤسسات الأهلية، ومن الواضح أن احتكار الدور الثقافي ليس أمراً عفوياً».
ويميل لمقولة إن المؤسسات الأهلية جامدة بطبيعتها «إلقاء المسؤولية على أفرادها غير صحيح، وغياب النوايا الجادة في النهوض بهذه المؤسسات الذي يتجلى في عدم وضع أنظمة واستراتيجيات لمعالجة مشكلاتها هو السبب الحقيقي، ويخلف الإحباط لدى القائمين عليها، وهذا الإحباط ينتشر إلى دائرة أوسع تشمل المثقفين وغيرهم» ويواصل «ليس عدلاً القول إن الشعوب محبطة بطبيعتها أو بسبب مشكلاتها الخاصة، الأنظمة التسلطية هي من يصنع ويشيع الإحباط فيها، نظرتها الدونية والشكاكة تجاه المثقفين، وراء ضعف دورهم في المجتمع، وهي من هيأ البيئات غير السليمة لنمو سلوكيات خاطئة لدى بعضهم، باختصار النظام اللاديمقراطي يخلق جماعات كسولة ومحبطة، وأفراداً غير أسوياء السلوك».
ويتساءل المناعي «لماذا المثقف في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية لا يعاني ما نعانيه من إحباط عام؟» ويجيب «لأن هذه الدول تقدر دور مثقفيها وتحترمهم، وتقدم لهم كافة أنواع الدعم، وتوفر لهم الأجواء والبيئات المناسبة للإبداع والإنتاج».
ويشير في هذا الخصوص إلى أن لديه مكتبة تحوي أكثر من 30 ألف كتاب ومطبوعة، إضافة لأرشيف عريض «المكتبة خدمت الباحثين على مدى أكثر من 30 عاماً، ورغم مناشدتي المساعدة لرعاية هذا الصرح، إلا أني في كل مرة لا ألقى آذاناً صاغية، ناهيك عن وجود العشرات من أمثاله من كتَّاب وأدباء وفنانين وغيرهم ممن ينوؤون اليوم بتركتهم الثقيلة التي لا يعرفون مآلها مستقبلاً، بعد مغادرتهم هذه الحياة».
يرى المناعي أن الإحباط وليد واقع سياسي لا تحترم فيه كرامة المواطن المنتج ولا تقدر فيه إنجازاته.
الجيل الحالي
لا يغفل الشاعر والناقد يوسف حسن عن دور المحيط والوسط الاجتماعي في إحباط المثقف العربي «إذا كان الوسط الذي يعيش فيه المثقف يعيش نهضة أدبية وثقافية ووعي عام بدور المثقف، فإنه في هذه الحالة يشعر بالاهتمام والدعم من كبار المسؤولين ببلده».
ويرفض حسن إضفاء صبغة واحدة على المثقف العربي ويقسّمهم لشرائح ومراتب «إعطاء حرية ومساحة للمثقف في أوضاعنا العربية صعب الحصول عليه، فالسلطة تريد من يؤيدها لا من ينتقدها، ولهذا نجد من الشعراء والكتاب ملغيين تماماً، ونجد الإحباط جزءاً من واقع المثقف والكاتب».
وينبه حسن إلى حالة اللامبالاة تجاه الثقافة والإبداع الأدبي في عموم العالم العربي «لا يجد المثقف العربي من يدفعه ويساعده على الإبداع، هناك فرق كبير بين القرن الحادي والعشرين والعقود الماضية في السبعينات والثمانينات، حينها كان هناك التفات شعبي للقصيدة والأدب، والمثقف والأديب والشاعر يريدون من يقرأ إبداعاتهم، والجيل الحالي لا يهتم إلا بالفكرة التي تؤيد فكرته».
ويوافقه الرأي الكاتب والمؤلف خليفة صليبيخ «الإحباط يقترن بالمثقف أساساً بسبب عدم احترام القيادات العربية للمثقف، ففي الأمس القريب أحد أصدقائي الكتاب أصيب بإحباط شديد بسبب عدم إجازة نشر كتابه» ويضيف «هناك عوامل كثيرة تحبط المثقف باستمرار منها سياسية وأخرى اقتصادية ومادية».
المتعلم والمثقف
يفرق الناقد في السرديات فهد حسين بين المتعلم والمثقف والكاتب «ليس كل متعلم مثقف «لكن يجب أن يكون كل شخص مثقفاً في مجاله، وفي ما يخص الإحباط وقرنه بالمثقف فهي علاقة متباينة بين شخص وآخر، وبشكل عام إذا اتفقنا على وجود الإحباط فهذا يعود لعدة أسباب، منها الحالة الوظيفية للكاتب العربي إذ يبحث عن قوت يومه له ولأسرته وهذا يأخذ معظم وقته ويسرقه من عالم الكتابة والإبداع، وضمور القارئ العربي فلم يعد كما كان بالأمس، وكثرة القراء السلبيين».
ويرد أسباب إحباط المثقف إلى «انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي الافتراضية الذي سحبت جزءاً كبيراً من ارتباط القارئ بنتاج الكاتب، والكلفة المادية المرتفعة لأي إصدار من غير المردور المادي، والحساسية المفرطة لدى الكاتب تجاه العلاقات الثقافية المتشنجة على المستوى العربي عامة».
غياب التواصل
وترى الشاعرة نبيلة زباري في اقتران الإحباط بالمثقف العربي صحيحاً إلى حد كبير «برأيي هناك عدة أسباب للظاهرة، منها ما يتعلق بالمثقف نفسه، وأخرى بالإدارات الثقافية والمتلقي والحالة المادة».
وتقول «تواجه المثقف أحياناً عوائق في نشر نتاجه الإبداعي، ارتفاع كلفة الطباعة والنشر أو سوء التوزيع وغيرها من أمور، ويقابل أحياناً الإدارات بالأسماء المعروفة غالباً وأبرز المحافل، إضافة إلى أن المبدع نفسه في بعض الحالات لا يبني جسوراً مع المتلقي لغموض لغته ما يؤدي إلى غياب أشكال التواصل بينهم، فيحبط المبدع نتيجة لذلك».
لا إبداع بغياب الحرية
الكاتب والمخرج أحمد جاسم محمد يرى في اقتران الإحباط بالمثقف البحريني أو العربي أسباباً حقيقية لا يمكن تجاهلها «الأجواء العامة في الوطن العربي لا تساعد على الحريات، ما أثر على المثقف في التعاطي مع الثقافة في المجال الأدبي أو المسرحي أو الكتابي أو النقدي أو الصحافي».
ويقول إن غياب أجواء الحرية في الوطن العربي، لا تساعد على التفكير والإبداع «المثقف العربي متعلق بنفسه، بمعنى أنه دائماً يهتم بالقضايا الفلسفية، تعقد الاجتماعات وتطرح الرؤى دون التفكير في ترجمة وبذلك أصبح العمل الثقافي ليس عملياً». ويشير إلى تراخي الدافع الإبداعي لدى المثقف العربي «بسبب عدم توفر المال والمكان، ورغم ذلك على المثقف ألا يستكين ويقف عاجزاً، بل عليه ابتكار أساليب وفرض صوته، خاصة أن شعور المثقف العربي بالإحباط يؤثر على المبدعين الناشئة بالساحة الثقافية، علينا النظر للموضوع من جوانبه الإيجابية، وتوظيف الطاقات لفتح آفاق ثقافية جديدة ومميزة».
الأوضاع السياسية
ويشاركه الرأي القاص والروائي أمين صالح «الإنسان العربي اليوم يعيش في دائرة الإحباط، بغض النظر عن كونه مثقفاً أو سياسياً أو إعلامياً أو مواطناً عادياً، فالأوضاع الراهنة سيئة، ولا تساعد على التقدم والازدهار، بل أصبحت تساعد في العودة إلى الوراء على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أيضاً»، ويتابع «الإحباط ليس محصوراً في نطاق المثقف، إنما أبناء الوطن العربي بمجملهم محبطون».
ويرى صالح في عدم الاستقرار تخلخلاً في النتاج الثقافي «لم نرَ حركة مزدهرة في المجال الثقافي، إنما محاولات فردية فقط، ولا يوجد خطة شاملة لتنمية الثقافة، وجميع الدول متأثرة بأوضاعها السياسية، واضطرابات تعم مختلف دول العالم، ولا يمكن أن تكون الثقافة بمعزل عنها، ومتى ما تحسنت الأوضاع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يتعزز المجال الثقافي والإبداعي ويزدهر بطبيعة الحال».
دور الإعلام
ولا يختلف الفنان التشكيلي مختار المختار مع زملائه أن المثقف العربي يعيش حالة إحباط عامة «عوامل الإحباط كثيرة ومتعددة، وبمقدمتها الإعلام، فلا يوجد إعلام عربي حقيقي يواكب تطلعات المثقف والفنان والكاتب والقاص، وقبل 15 سنة كان هناك برنامج تلفزيوني يستضيف فناني بحريني ويجري لقاءات معهم، اليوم هذه البرامج لم تعد موجودة».
نظم مختار في الفترة الأخيرة معرضاً فنياً كلفه 3 آلاف دينار والمرود 250 ديناراً فقط «الجمهور أيضاً قل إقباله على المعارض الفنية، ونطمح أن يتنبه القطاع الخاص ويبادر بدعم الفنانين».
ويعتقد الشاعر الشعبي أحمد إبراهيم أن من أهم أسباب إحباط المثقف البحريني والعربي عموماً، غياب الدعم بشتى أنواعه «المادي والمعنوي والإعلامي» ويقول «بطبيعة الحال يعيش المثقف البحريني في خانة الإحباط، والأوضاع السياسية تعيق العمل الثقافي أحياناً، وهنا يجب أن يبرز دور المثقف في دعم قضيته، والمشاركة بفاعلية في دعم الحراك الثقافي والإبداعي كل بمجال اهتمامه».