بدر علي قمبر
تأتي نغمات الحياة أحياناً على غير ما يتمناه المرء، بصورة وجه شاحب مُضطرب الأوصال، يبكي على أيام مضت تحطمت فيها الآمال، واسودت فيها الفعال، ونامت النفس فيها على غير حال.. يقف صاحبنا عندها يرتجف خوفاً من دنو الآجال بلا صالح الفعال، فينظر يمينه وشماله باحثاً عن عمل يُعيده إلى آفاق رحبة سعيدة افتقدها كثيراً في حياته الخالية من أجمل الأعمال!!
ما لك يا هذا تبتعد كثيراً عن ضميرك الحي النابض بالخير الذي ركنته في زاوية النسيان، وجمَّدت عروقه بحياة خاوية من روائع الإيمان، فمضت حياتك في ركب أولئك الذين انعدمت من نفوسهم أبسط المعاني الإنسانية فعاشوا في ظلام دامس لا يستسيغه من يعايشهم، وهم يظنون في قرارة أنفسهم بأنهم يعيشون في منزلة حياتية جميلة يُحققون فيها مآربهم الشخصية على حساب الآخرين..!!
يقول الأديب الرافعي رحمه الله: «تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفِرُّ فِرارها، فمن جاء من عمره 20 سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تُصحَّحَ أعمالُ الحياةِ في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباع المدخولة والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة، والشهوات العارمة، فإنه ما دام العمر مقبلاً مدبراً في اعتبارٍ واحد، فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقتٍ معاً، وتكون الحياة في حقيقتها ليست شيئاً إلا أن يكون الضمير الإنساني هو الحي في الحي».
نغفل أحياناً بل غالباً عن كيان ذلك الضمير الإنساني الذي أسماه الرافعي «هو الحي في الحي»، فهو يسري في عروقنا، ونتبادل معه شجون الحياة وخطوبها ولحظاتها، ولكن ما الذي جعل البعض يملأ نفسه فرحاً ومتعة بزخارف العيش وشهواتها دون أن يأبه بذلك المضمون الأخروي الذي أعده المولى الكريم لعباده المخلصين؟ إنها الغفلة الحقيقية التي جعلت كيان الضمير يموت لدى البعض فتتبلد الأحاسيس وتنتهك رقة المشاعر، وينقلب صاحبها إلى وحش كاسر يحطم النفوس التي اكتحلت عينها بأروع المعاني.. ضمير ميت وخواء روحي لا يعطي حق المولى وحقوق من يبادلهم عوالم العيش.. ضمير ميت يقضي على آمال كبار خطها صاحبنها لحياته.. ضمير شرس يدوس على مشاعر غيره من أجل أن يحقق مآربه الشخصية.. ضمير يقدم «أصحاب التفاهات» الذين يتقربون إليه «بضحكات فارغة» وعبارات ترفعه في معالي الشهرة، على أصحاب صالح الفعال ومن محبي الخير ومعاني الإيمان التي يبتسمون بها على عتبات الآخرين.. وما أقسى ذلك الضمير المتذبذب المتبلد عندما يدوس على الأعراض وينتهك الحرمات ويقتل البشر في دوامة الحياة من أجل أن ينفع نفسه أولًا ويحافظ على كرسيه، ويحقق مآربه في أرض خاوية يحسبها مزهرة بفكر لا يعرف للحقوق أصلاً!!
لا تُكشر عن أنيابك يا هذا، فالأيام دول والحياة قصيرة لا تضمن فيها صبغة ثابتة في نفسك.. فكلنا نعيش حراساً على ضمير يمازج ضمائر البشر وينمي معهم ثمار الخير.. نحتاج إلى إحياء ضمير يستمع إلى صوت داخلي يفتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً، يربي نفسه بنفسه على قوة الإيمان والخشية من الديان. كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: «يا صاحب الذنب لا تأمنن من سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب إذا ظفرت به، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته». وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إنا كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات».
تعلق بضمير حي لا تظلم من خلاله أحداً، ولا تقسو من خلاله على كائن من كان، وتعطي كل ذي حق حقه، ضمير يغسل الأرض دائماً بأنبل الصفات والفعال، ضمير واع يعود إلى نفسه كلما وقع في فرائس الحياة، ضمير يلبس رداء اليقظة ويضحك من أجل إسعاد الآخرين، وبث روح التفاؤل والأمل ورياحين الحب في سمائهم.. ضمير يخشى ربه.. يتمنى أن يعيش سعيداً.. يمضي حياته بهدوء يزرع فيها كل بذور الخير.. يرفع أعلام الأمان في كل لحظات حياته.. حتى إذا غادرها بهدوء.. كتب على غصونها.. رحمه الله رحل وهو يداعب الخير أينما كان.. فكان نعم الطالب لحياة الآخرة.
970x90
970x90