يرفع أبو محمد سترة رمادية يعرضها على زبائن اصطفوا أمام عربته مردداً بصوت عال كلمات تنتقد أوضاع بلاد لم تتبدل مآسيها منذ انسحاب القوات الأمريكية قبل عام.
ويقول بائع الملابس المستعملة في سوق الشرقي وسط بغداد «إذا كان الاحتلال موجوداً أو غير موجود، بالنسبة لنا لم يتغير شيء».
ويضيف بصوت عال يدفع أصحاب العربات الأخرى للتجمع حوله أنه خلال فترة «الاحتلال كانت التفجيرات، واليوم التفجيرات موجودة، كما ظلت البطالة نفسها. الوضع بقي ذاته».
ويرى أبو محمد أن الشيء الوحيد الذي تغير هو أن القوات الأمريكية انسحبت بعدما كانت «تعامل العراقيين بطريقة سيئة، كأن العراقيين عبيد لها، لقد خلفوا خوفاً داخلنا، فماذا نتذكر منهم؟ لا شيء جيد يذكر».
وغادر آخر الجنود الأمريكيين العراق صباح 18 ديسمبر من العام الماضي بعد نحو 9 سنوات من بداية حرب مثيرة للجدل بأسبابها وفصولها، تاركين وراءهم بلاداً تعيش على وقع أزمات سياسية وتحديات أمنية كبيرة.
وأسدل الانسحاب الستار على قصة دامية بدأت باقتناع إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بأن إسقاطها لنظام صدام حسين سيجعلها تفوز تلقائياً بقلوب وعقول العراقيين، فشنت حرباً متحججة بالبحث عن أسلحة دمار شامل، تبين أنها لم تكن موجودة أصلاً.
واتخذت القصة منحى مختلفاً بعدما عبدت القوات الأمريكية الطريق أمام تمرد مسلح إثر حل الجيش خصوصاً.
تسبب هذا الأمر بمقتل عشرات آلاف المدنيين العراقيين وآلاف الجنود وعناصر الشرطة، إضافة إلى نحو 4474 جندياً أمريكياً، وذلك إلى جانب إنفاق نحو 770 مليار دولار من الجانب الأمريكي.
وفي ساحة الخلاني القريبة من سوق الشرقي، يقول تاجر الإطارات والبطاريات محمود ياسين «لم نتفاجأ بالموضوع، عرفنا أن الأمريكيين سينسحبون عاجلاً أم آجلاً هم لم ينسحبوا بإرادتهم بل تحت ضغط الشعب».
ويضيف «أمشي ولا أرى أمريكيين. نفسيتي أفضل. فمن يحب أن يرى احتلالاً؟ كل إنسان وطني لا يرضى بالأجنبي في وطنه ونحن عراقيون معروفون بالشهامة فلا نرضى بأي محتل كان».
ويتابع بعصبية أنه رغم ذلك «لم يتغير شيء منذ انسحابهم. الأمور من سيئ إلى أسوأ واليوم بتنا وكأننا دولتان في دولة واحدة»، في إشارة إلى النزاع الدائر بين إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي والحكومة المركزية في بغداد.
وإلى جانب أزمة كردستان وبغداد هذه التي تستمد زخمها من الصراع على المناطق المتنازع عليها، تعيش البلاد منذ عشية الانسحاب الأمريكي على وقع أزمة سياسية أخرى عنوانها اتهام رئيس الوزراء نوري المالكي بالتسلط والقبض على الحكم.
كما يعيش العراق على وقع أعمال العنف اليومية المتواصلة منذ عام 2003، ويواجه عجزاً في تأمين الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه النظيفة، إضافة إلى الفساد الذي يظلل عمل معظم مؤسسات الدولة.
وعلى بعد أمتار من ياسين، يجلس عبد عليان بين الخضروات التي يبيعها على طاولة خشبية صغيرة تفترش الرصيف إلى جانب عشرات الطاولات المماثلة والعربات التي تبيع المأكولات والملابس وغيرها.
ويقول عليان الذي يبيع أيضاً ملابس داخلية رجالية أمريكية الصنع «طموحاتنا وأمنياتنا بسيطة جداً لكنها لا تتحقق. لم يأت أحد يجعلنا نشعر بقيمة الشعب العراقي والعراق».
ويضيف «كنا نرى الأمريكيين هنا طوال الوقت، ونسمع إطلاق نار بين الحين والآخر واليوم أقول للاحتلال الأمريكي إن الاحتلال الإنجليزي عندما كان هنا في العشرينيات بنى لنا جسوراً وشوارع جيدة لكنك أنت لم تبن لنا شيئاً بل أخذت كل شيء وذهبت وتركت لنا الآلام والمواجع».
من جهته، يرى كريم كاطع الذي يعمل خياطاً للألبسة العسكرية في سوق الشرقي أن «الأمن ربما كان أفضل إذ أن الأمريكيين كانوا ربما يضبطون الأمور أكثر، لكن رغم ذلك، رحيلهم يجب أن يكون أبدياً».
ويوضح وهو يخيط قطعة عسكرية زيتية «هم لا يفهموننا ونحن لا نفهمهم. هم جاؤوا من أجل مصالح خاصة والنفط أهم ما فيها. لم يبنوا هنا على عكس الخليج أدخلوا الناس الفاسدين ودمروا البلد».
ويتدخل كاظم الربيعي ليقول «عندما أتى الأمريكيون في بادئ الأمر، كنا نجلس معهم في المقاهي ونتفاعل معهم». ويتابع «تغيروا فيما بعد، كانوا محررين وتحولوا إلى محتلين».
«فرانس برس»