كتب - علي الشرقاوي:
عندما كنا في بداية المراهقة، سائرين من الحورة قاصدين السوق للمرور على المكتبات، قصد شراء ما تطرحه المطابع المصرية واللبنانية من جديد الكتب، كنا نرى الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريض بهامته العالية يسير أمامنا، سائراً إلى السوق هو الآخر، نسلم عليه بحرارة محبة الأبناء لآبائهم.
بعض الأحيان نراه جالساً في إحدى المكتبات في شارع الشيخ عبدالله يحتسي الشاي، ونشاهده في الليل ذاهباً لمشاهدة أحد الأفلام الهندية التي يحبها كثيراً، ربما بسبب الحنين إلى البيت الأول وملاعب الطفولة الأولى وبداية المراهقة. هذه الصورة لا تغادر ذاكرتي كلما مر اسم إبراهيم العريض كأحد أهم الشعراء البحرينيين الذين أسسوا الحركة الشعرية العربية، أقول العربية لأن العريض كان معروفاً لدى الشعراء والكتاب العرب أكثر من البحرينيين، وكان يعرفه القلائل، بسبب عدم وجود صحافة في البحرين بداية الستينات، ولأن العريض منذ بدأ نشر تجاربه الشعرية اتجه إلى المحيط العربي أكثر من المحيط البحريني الضيق، فظل شاعراً عربياً كبيراً، فيما نحن تعرفنا عليه وعلى تجربته، بعد أن عرفنا شيئاً من المتابعات لشعرائنا البحرينيين، احتجنا إلى وقت ليس بالقصير للتعرف على ما صاغوه من أشعار.
ولد الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريض مارس 1908 بمدينة بومباي الهندية من أب بحريني وأم عراقية، أثناء وجودهما هناك متاجرين في اللؤلؤ.
ماتت أمه بعد ولادته بشهر، فأوكل أبوه تربيته إلى امرأة هندية، عاش طفولته وصباه الأول في الهند ودرس في مدارسها الابتدائية والثانوية حتى تخرج عام 1925 وعاد إلى البحرين ليعمل مدرساً للغة الإنجليزية، وتعلم اللغة العربية وآدابها على يد الأديب الشاعر سلمان التاجر.
فتح العريض مدرسة أهلية خاصة كان بين تلامذتها مفكرون ووزراء وأدباء عرفوا بعد ذلك، وكتب في هذه المدرسة بعض المسرحيات باللغتين العربية والإنجليزية وأخرجها لتمثل على خشبة المدرسة، أهمها مسرحية «وامعتصماه».
اشتغل العريض مترجماً في إحدى شركات النفط، ثم رئيساً لدوائر الترجمة في شركات النفط العاملة في إمارات الخليج من 1937 إلى 1967 استعارته حكومة الهند خلال الحرب العالمية الثانية للعمل في إذاعتها 1944-1945.
اشترك في المؤتمرات الأدبية المنعقدة في دمشق والقاهرة والكويت والإسكندرية وبغداد وغيرها، ممثلاً بدعوة خاصة، ابتداءً من مؤتمر الدراسات العربية الرابع للجامعة الأمريكية ببيروت 1954 إلى المؤتمر الرابع للكتاب الآسيويين الأفريقيين في دلهي عام 1970.
توقف العريض عن كتابة الشعر مطلع الخمسينات بعد صدور ديوانه «شموع» أكثر من ربع قرن، كتب خلاله بضع قصائد قليلة ختمها بقصيدة طويلة بعنوان «مذكرات شاعر».
تبوأ العريض في هذا الربع الزمني الخالي من الشعر عدداً من المراكز المهمة كان في مقدمتها رئاسة المجلس الوطني التأسيسي عام 1973، أصبح بعدها سفيراً متجولاً بديوان الخارجية عام 1975 وهو منصب ظل يشغله حتى وفاته عام 2002.
العريض في الذاكرة الشعرية
من أهم الدراسات المكتوبة عن إبراهيم العريض هي الدراسات المتوزعة في كتب الناقد د.علوي الهاشمي سواء في دراسة «ما قالته النخلة للبحر»، أو دراسة «السكون المتحرك» بأجزائها الثلاث خاصة في موضوعه علاقة الشاعر مع الطبيعة، هذه العلاقة التي عدها الشعراء الرومانسيون في العالم جديرة بالاهتمام من قبل الشعراء والفنانين التشكيليين.
وفي أغلب الدراسات عن المسرح البحريني، نجد العريض حاضراً وبقوة في كل دراسات الناقد الكبير د.إبراهيم غلوم، الذي عمل على البحث عن المسرحيات الضائعة وتوثيقها كتابة ونقداً.
رائد الرومانسية البحرينية
الشاعر العريض واحد من الشعراء الكبار بتجربته الشعرية والنقدية والفكرية، واحد من الذين شكلوا الذائقة الشعرية، وبالذات في المرحلة الرومانسية، الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، لتمكنه من عدة لغات لم يحصل عليها من الشعراء المجايلون له في البحرين، فهو أتقن قراءة وكتابة اللغات الأوردية والإنجليزية والفارسية، قبل تعلمه اللغة العربية بعد قدومه إلى البحرين وأجادها وبرز فيها معلموه.
كتب العريض منذ بداياته أشعاراً مختلفة، بهاراتها ساخنة، روحها منفتحة على سماء الإنسان في كل مكان، لها نكهة اللغات التي أتقنها وحول امتدادها إلى المحيط العربي.
إبراهيم العريض لم يكن محلياً في أشعاره وأفكاره، بقدر ما كان أممياً دائماً، لكونه عاش طفولته الأولى ومراهقته الأولى وسماواته الأولى في الهند، ثم اندمج كلياً في طين كبار الشعراء الرومانسيين، وانغمس في مسرحيات شكسبير.
نرى تأثيرات العريض على العديد من الشعراء الأكبر سناً، خاصة في تجربة الشاعر الراحل أحمد محمد آل خليفة والشاعر الراحل غازي القصيبي، خاصة في موضوع العلاقة مع الطبيعة عند الشعراء الرومانسيين، وكم كنا نتمنى لو كتب العريض ذكرياته لتكون مادة للدرس في ماهية تكوينات الشعراء العالميين، وأيضاً لتحويلها إلى مسلسل درامي قادر أن يطرح طبيعة تحولات الإنسان بتحولات اللغة، ورغم أن هناك العديد من الكتابات عن العريض، إلا أنها لم تستطع سبر طبيعة الحياة الزمكانية التي عاشها هذا الشاعر العظيم.