أصدرت مؤسسة الدوسري للثقافة والإبداع في البحرين الكتاب الجديد للشاعر العراقي شاكر لعيبي «السوريالي الأول.. أبوالعبر الهاشميّ (ت 862م)»، ويتضمن الأشعار والنصوص النثرية لواحدٍ من أقدم الشعراء السورياليين في العالم على ما يبدو.
يقدم أبوالعبر مثالاً على مناهضة المخيلة والأساليب السائدة في وقته، وكانت مناهضة واعية تماماً، ما يمنحه أهمية مضاعفة في سياق التاريخٍ الشعري العربي المنافح عن فخامة اللغة ورصانتها من جهةٍ، والمستند من جهة أخرى إلى عقلنة المعاني إزاء الرصانة ذهبَ نحو الرطانة، وأمام العقل فضلَ عالماً خارجاً مما يمكن أن يسميه علماء النفس باللاوعي، وإنْ بأشكاله الجنينيّة الملائمة لزمنٍ مضى.
خيار الهاشمي السوريالي لم يكن سوى خيارٍ صاحٍ شخصيّ وبوعي كاملٍ من طرفه، وهو ما تدل عليه واقعة الكتابة الآلية التي كان يمارسها ويذكرها مؤلف «الأغاني» سمعتُ رجلاً سأل أباالعبر عن هذه المجالات التي يتكلم لها أي شيء أصلها؟ قال «أبكِّرُ فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج -أي ما يكتب به- فأكتب كل شيء أسمعه من الذاهب والجائي والمَلّاحين والمُكَارِيْن، حتى أملأ الدَّرْج من الوجهين، ثم أقطعه عرضاً، وألصقه مُخالِفاً، فيجيئ منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه».
سبــــق أبــــوالعبـــر تريستان تــزارا والسورياليين الأوروبيين بقرون طوال في ممارسة الكتابة الآلية.
يذكر شاكر لعيبي أن «أشعار أبي العبر القليلة المبثوثة هنا وهناك في كتب الأدب العربي الكلاسيكي، مدْرَجةٌ في نطاق حكاياتٍ مُضحكةٍ عندما يتعلق الأمر بنصوصٍ متطرِّفةٍ شاذة، أطلَقَ عليها بعضُ النقّاد القدامى وصف الرطانات».
وأضاف «سوى أنه عندما تعلق الأمر بنصوص جادة له تسير على هدي العمود الشعري ولغته الثابتة، فلأن الاستشهاد بها في تلك المصادر يصير برهانَ المؤلفين على براعته ومعرفته العميقة باللغة وفنونها، برهاناً ينسى أن خياره السورياليّ لم يكن سوى خيارٍ صاحٍ شخصيّ وبوعي كاملٍ من طرفه».
مفاجأة المصنف أبي سعد منصور بن الحسين الآبي (ت 421 هـ) في كتابه «نثر الدر في المحاضرات» أساسية، لأنه الوحيد الذي يقدم للقارئ نصوصاً نثرية صريحة في سورياليتها، بل إنها تبرهن أن أسلوبه يخرج، بوضوحٍ شديدٍ، عن أسلوب ومماحكات الشعراء المُجان لأنها تطلع من مخيلةٍ مختلفةٍ.
وُصفَ الفن الفنتازي بأنه مشحونٌ بالشاذ المخالف للمألوف وما هو غير لائق والمشـتبه به والمخـشي منه، يضاف إليها في حالات كثيرة القلق المتأصل في روح الكائن الإنسانيّ، وفي إطار هذه الأوصاف أو ما يماثلها يمكن كذلك فهم ما بقىَ من أبي العبر الهاشمي ودائماً في نطاق عصره.
ويخلص إلى القول «إننا نحسب أن النصوص التي يعرض منصور الآبي نتفاً منها قد تكون موجودة كاملة في كتاب أبي العبر الضائع «جامع الحماقات وحاوي الرقاعات» لنأمل أن يعثر أحدٌ على هذا الكتاب».
وبرْهنَ تاريخ الشعر العربي أن هناك الكثير من الظواهر والنصوص المهمشة ما يملك قيمة نصية عالية ومما يقدِّم الأدلَّة على مناهَضةٍ شبه تامةٍ للأسلوب المنمط الثابت الذي قُعد بوصفه «الأسلوب الوحيد» الرفيع الجدير بالنهج على منواله.
تلك النصوص تقف على شاطئ بعيدٍ مهجورٍ، بينما تقف على الشاطئ المقابل المزدَحم، النصوصُ الجاهزةُ الوفيرةُ الغزيرة، ثمة مغزى لن يفوت على أحد يقع في أننا لن نتذكَّر اليومَ الكثيرَ من شعراء النمط والعمود المقيم.
يتساءل المرء كيف أنه لا يعرف أو يعترف بشاعرٍ مثل العباسيّ محمود الوراق، رغم أن كبار مؤلفي ونقاد العصر أمثال المبرد والأصفهاني والجاحظ والتوحيدي والعسكري والوشاء والجرجاني والدينوري والثعالبي وابن الشجري وابن المعتز والسيوطي كانوا يستشهدون بشعره، لأنه فحسب كان يتبع النهج المقبول والحكمة المزعومة.
ويضيف المؤلف «لعل أبا العبر مثال على هذه المناهضة التي يجب أن نقول إنها كانت واعية، ما يمنحه أهمية مضاعفَة في سياق تاريخٍ شعريٍّ ينافح عن فخامةِ اللغة ورصانتها من جهةٍ، ويرْكُن من جهة أخرى، إلى عقلنة المعاني، إزاء الرصانة ذهبَ نحو الرطانة، وأمام العقل فضَّلَ عالماً خارجاً مما يمكن أن يسميه علماء النفس باللاوعي وإنْ بأشكاله الجنينية الملائمة لزمنٍ مضى».
يعتبر الكتاب بحثاً غنياً للمكتبة العربية بتناوله جانباً مهماً من الدراسات التاريخية حداثياً، ويسلط الضوء على جزء مهم من ثقافتنا العربية بالرجوع لظواهر أدبيّة قديمة وشعريات مهْملة كما عبر عنها مؤلف الكتاب بمقدمته.