كتبت - شيخة العسم:
خصص مؤتمر الأدباء والكتاب العرب ثالث أيامه للاحتفاء بشاعر البحرين الراحل الكبير إبراهيم العريض تحت عنوان «العريض أديباً»، في جلسة علمية احتضنها مركز عيسى الثقافي صباح أمس وإدارة د.إبراهيم عبدالله غلوم. تناوب في طرح أوراق العمل بالمؤتمر أستاذة الأدب والنقد بجامعة البحرين د.عبدالقادر فيدوح ود.عبدالحميد المحادين، ود.عثمان بدري من الجزائر.
تحدث فيدوح عن «فضاء الرؤيا واتساع الدلالة في شعر العريض»، قصّ قصته مع الشاعر الكبير وبدايتها كعلاقة بحثية، قبل أن تتحول إلى قومية ثم ذوقية وأخيراً قدرية.
المحادين خصص ورقته لحياة العريض ومراسلاته، وذكر أسماء لامعة كاتبت العريض وتبادلت معه الرسائل منهم ميخائيل نعيمة، أحمد أبو شادي، رياض معلوف، ألبير أديب، عبدالرزاق البصير، أنيس
الخوري المقدسي، وديع فلسطين، سهيل أدريس، بهيج عثمان، والشاعرة نازك الملائكة.
عبدالقادر فيدوح يسرد قصته مع العريض، يعرج على تجربته الشعرية الثرة، وتوليفه بين الشعر وباقي الفنون والأجناس الأدبية «سنة 1975 عندما كنت طالباً، طلب مني أستاذي البحث عن كتاب الفنون الجميلة والشعر لكاتبه إبراهيم العريض، عندها بدأت بالتعرف عليه أكثر فأكثر». ويرى فيدوح أن شعر العريض كان عامراً بالمشاعر الدافئة، وأنه من الشعراء القلائل في عصره الذين ربطوا الشعر ببقية الفنون الجميلة، ما انعكس على سجيته الشعرية، وصقل ذوقه الفني «ليس ذلك غريباً من شاعر أراد لشعره أن يحمل فكرة الطموح المنبعثة من رغبته في خلق صور فنية تنطلق من رؤيته المتأملة في استشراف عوالم منتظرة التحقق، ولعل صورة الأمل هذه تكاد تكون لازمة في دواوينه، ظاهراً وباطناً، كما تعد -هذه اللازمة- محوراً جذاباً لكل من يرغب في اقتباس تجربته الوجدانية». بالنسبة لما يميز شعر العريض يقول فيدوح «تميزت أعماله بالمثول للفلسفة العاطفية التي قامت على أساسها الرؤية الرومانسية، فكانت أشعاره محوراً لطبيعة عكست العواطف الذاتية، وعبرت عن التجارب الجديدة، وعمقت نظرته في أسرار الكون، عكس ما كان سائداً من قريض الشعر الذي لم يكن له نصيب من الفعل الشعري غير الكلام المطنب، ونقل الصورة الحسية إلى معان مجردة، خاضعة للنظر العقلي، والنظم في التقفية، وفي هذا توافق مع الحقيقة الواقعة، واختلاف مع إبداع كشفي يتعاطى مع الشعر كحلم، يتخيل ما ليس موجوداً، في صورة تقذف به خارج المكان والزمان، وهذه هي مهمة الشعر، ودافعه الأول، وذلك ليتأمل في إمكانية خلق وجود غير الوجود العياني».
ويضيف «الشاعر أكثر الناس تأملاً في إخضاع قوانين الكون والطبيعة إلى المشاعر الذاتية، وأكثرهم تساؤلاً عن معنى أسرارها، وهذا ما نهجه العريض الذي خالف معاصريه فيما كان سائداً من قيود وقوالب جاهزة، مقابل ما كانت تنادي به الرومانسية بنبراسها الوهاج عندما احتضنت الوجدانية الذاتية في رؤيا شاعرنا، وفرضت عليه الرومانسية التحدي الأكبر في جل قصائده، وأخضعت سلطان مشاعره إلى عالمها الفياض بواسطة القلب، فاحتوته وسيطرت عليه كما احتوت قصائده أجواءنا وسيطرت علينا».
التشابك مع الأدباء العرب
عبدالحميد المحادين استعرض في ورقته حياة العريض ومراسلاته «في البدء كنت أظن، ولكثرة ما كتب الأدباء والشعراء من معاصري العريض، أننا لن نعود إلى العريض، أننا غطينا الكثير من حياته وأدبه وإبداعاته ودوره، وعلى أي حال كان حظ العريض من الدراسات والبحوث والإشارات وافراً، هو جدير بذلك».
وأضاف «لما كان المؤتمر العام للأدباء العرب يعقد في البحرين، وطن العريض، كان لابد من أن تكون تحية البحرين للأدباء العرب ورقة فيها شيء من سيرة أديب البحرين إبراهيم العريض». يجد المحادين نفسه أمام العريض «لكن هذه المرة اكتملت رحلته من البدء إلى النهاية، وأصبح متاحاً للدارسين، وكما يدخل الرحالة إلى القارات، فهم يجدون في كل جانب منها مناخاً مختلفاً لكنه يتعامل مع مناخات القارّة».
يزعم المحادين أنه لا يقول جديداً «لن أقول عن العريض شيئاً لم يُثر مرتين، ولكن رقعة الشطرنج تتغير مشاهدها مع حركة بيدق من فوقها، من بعيد في الزمان وبعيد بالمكان، قبل ما يزيد عن قرن وبضع سنوات، وبالتحديد عام 1908، وهناك في الهند، حيث كان عبدالحسين العريض يقيم في بومباي مرتبطاً بعلاقات تجارية كانت شائعة آنذاك بين الخليج العربي والهند، وسفن تروح وتجيء عبر المحيط الهندي وتمر بالموانئ العربية والأفريقية والهندية، محملة بالبضائع، وكان اللؤلؤ مفردة تجارية متداولة في هذا المناخ المتشابك، بل هي الأبرز فيما يشيع من الحقل الدلالي لتلك العلاقة».
ويلفت إلى «في هذا العام 1908 ووسط هذه الظروف وفي مدينة من أبرز وأشهر مدن الهند بومباي ولد إبراهيم العريض، وكان إبراهيم الطفل حاز كل إمكانات أمه العربية البحرينية، فما كادت تدفع به إلى الحياة، حتى آثرت وآثر لها القدر أن تنسحب من الحياة تاركة طفلها لمواجهة الحياة بكل عناصرها ومتاعبها». ويتابع «سيدة هندية استعان بها عبدالحسين العريض لتتولى تربية الطفل إبراهيم ووظفها لهذه الغاية، إذا في بلد ليس عربياً، وليس هو الوطن الأم للعريض نشأ طفلاً بلا أم أيضاً، من هنا والآن كانت نشأة العريض الزمان والمكان، حيث ولد وحين ولد، هذه الرحلة معروفة جداً لدى دارسي العريض، بل إن كثيراً من الباحثين حللوا هذا المعطى لكي يصلوا إلى تفسير عميق وحقيقي لمكونات هذا الطفل».
في مدارس الهند تعلم يقول المحادين «هذا بالتحقيق يسر له معرفة باللغة الأردية، واللغة الإنجليزية وأمشاج من الفارسية، واستمرت فترة تعليمه إلى المرحلة الثانوية، أما العربية فكانت علاقته بها أول الأمر متصلة إلى حد كبير بما يسمعه ويراه من أحاديث بين والده وزواره العرب حول العلاقات التجارية في معظم الأحيان».
ويواصل المحادين سرده لنشأة العريض «كان في صباه شغوفاً بالعلوم والآداب والتاريخ واللغات والرياضيات والفلك، وكان بالضرورة يتطلع إلى معرفة ما حول الوطن -البحرين- أتيح له زيارة البحرين مرة أو مرتين في صباه ورأى ما كان يجب أن يراه، من منظور أقرب إلى السياحة، من استقصاء المعرفة».
كيف كان إبراهيم يحس بجذوره التي لم يعايشها حتى عشرينات القرن العشــرين؟ يجيب المحـــادي «كـــــان يتشكل في نفسه ووجدانه شعور بالانتماء الخفي إلى الوطن.. الوطن العربي في مجمله».
ويقول «لست هنا بصدد الحديث عن تلك المؤثرات التي تركت في وجدانه ما تركت، لكنها مؤثرات متشابكة، المهم أن نعلم أنه في أواسط العشرينيات التحق بشكل تام بأقاربه في البحرين، ودخل في مدارس البحرين تلميذاً أول الأمر ثم مدرساً بعد ذلك، وأخذ يتفاعل مع موجودات البحرين في تلك الفترة، وتعارف مع كثيرين من العرب ممن كانوا يمارسون التعليم في مدارس البحرين الأهلية إلى أن قيظ له حب التعليم أن يفتتح مدرسة لهذا الغرض».
العريض الشاعر
ألحت على إبراهيم العريض موهبته الشعرية بعد أن تتفلت داخله لتعبر عن نفسها، مصطنعة لغات متعددة كان يجيدها.. لكن العربية، بحكم الموطن والانتماء كانت أسرع من غيرها في الظهور أداة لشاعرية العريض.. يقول المحادين.
ويضيف «ما كادت ثلاثينيات القرن العشرين تطل حتى أصدر العريض واثقاً من شاعريته ديوان ذكرى، ثم كرّت المسبحة فأخذ ينشر تباعاً أو يكتب تباعاً، ووجد طريقه إلى المجلات الأدبية في العالم العربي، وأصدر مجموعات شعرية وملحمتين وكتب مسرحيات شعرية، وبدأ في ترجمة الشعر الفارسي مباشرة من بوابة عمر الخيام».
ويتابع «كانت تحركات الثقافة العربية، وحركات التحرر من الاستعمار الغربي، تتيح فرصاً كبيرة للأدباء والمفكرين العرب أن يتواصلوا، وبدأت الشخصية القومية العربية تتبلور وتحفز العرب ليعرفوا بعضهم بعضاً، وتقوم بينهم التواصلات الفكرية والأدبية والسياسية أحياناً، ويتعارف الأدباء والمفكرون العرب عن طريق الاتصالات الكتابية، في حدود ما كان متاحاً، وكانت لغات المستعمرين بوابات لكي يلج منها الدارسون العرب إلى الحركات الفكرية الحديثة».
ويستدرك المحادين «كانت اللغة العربية هي مفتاح التلاقي والتفاهم والتآلف، في هذه الفترة تكاد تكون ارتباطات الأسماء بالأقطار مسألة متحققة، فهذا أديب من لبنان وذاك من مصر وآخر من الأردن وثالث من العراق وهكذا بقية الأقطار حتى شمال أفريقيا، وامتدت روح التعارف إلى المهجر الشمالي والجنوبي وأخذت مجلات أدبية تصدر كالرسالة والأديب ويلتقي على صفحاتها الأدباء والشعراء والكتاب في أواخر كل شهر أو شهرين».
العريض الخليجي
في هذه التوجهات يقول المحادين «كان إبراهيم العريض هو الاسم المرتبط بالبحرين خاصة وبالخليج العربي عموماً، فما كان بعد أدباء الأقطار العربية يحول دون أن يقف العريض في الصف الأول، وهذا ما جعله مرتبطاً بالبحرين والخليج في كافة الاعتبارات».
ويردف «في حدود وسائل الاتصال في تلك السنوات كان العريض يحقق حضوراً جيداً وتتوثق علاقاته ومعارفه بشكل لافت، كان العريض معروفاً في المحافل الأدبية العربية أكثر من سواه، في هذه المنطقة، بل أقول إنه حتى منتصف القرن العشرين أو يزيد، لم يكن هناك اسم متداول في الأوساط الأدبية العربية عن البحرين كاسم إبراهيم العريض».
ويلمح إلى إبداعات العريض وتطلعه إلى أن يتجه إلى الحياة الرحبة الواسعة وأن يحد من ارتباطه الضيق بموطنه وذويه «يعود هذا إلى بطبيعة نشاط العريض وتركيبه النفسي وارتباطه بمفهوم الأم الذي افتقده مبكراً، ورغبته في ألا يقيد نفسه في اهتمامات محلية ضيقة».
ويشير المحادين إلى مجموعة عوامل أثرت في العريض ووسعت علاقاته بالعرب في أمكنة متعددة ومختلفة «تعرف الأدباء العرب على إبراهيم العريض عبر أكثر من وسيلة اتصالية، ولأن العريض كان ملماً بشكل واسع بالحركات الأدبية في العالم بشكل عام وفي الوطن العربي بشكل خاص، مستفيداً مما يجيد من اللغات الحية ومنها الإنجليزية والأوردية وإتقانه اللغة الأم التي لم تكن لغته الأم بشكل ضيق، كل هذا أتاح له مواقع كثيرة يعرف فيها ويشتهر هناك، لأنه في كل حقل يجد ما يقوله وما ينفع به الناس». ويتحدث المحادين عن مراسلات عدة بين العريض وكار المفكرين والشعراء والأدباء العرب «وردت عشرات الرسائل من وإلى العريض، وبإحصائية سريعة نجد أن الرسائل الواردة إلى العريض تشمل 128 رسالة وكتب حوالي 50 رسالة، وهذه المفارقة العددية تعني أن العريض كان موضع اهتمام الأدباء والصحافيين والمفكرين العرب، وأنه كتب حوالي نصف الرسائل إليهم، ولو نظرنا إلى المدن والعواصم التي جاءت منها المراسلات نجدها القطيف، بسكنتا، نيويورك، بيروت، الكويت، العراق، القاهرة، باريس، السعودية، نيودلهي، صفاقس، سوريا، مكة، الشارقة، طرابلس، المفرق، لندن، نابلس، جنيف، جدة، تطوان».