عبدالرحمن صالح الدوسري
عرِيت من الشباب وكنتُ غضاً كما يعرى من الورق القضيبُ
ونحت على الشباب بدمع عيني فما نفــــع البكـــاءُ ولا النحيبُ
فيا أســـفاً أسفتُ على شــــباب نفاه الشـيبُ والرأسُ الخضيبُ
ألا ليت الشــبابَ يعـــودُ يومــاً فأخـــبرهُ بما فعـــل المشــــيبُ
لست آسفاً كما الشاعر أبو العتاهية على رحيل الشباب بقدر ما أتحسر على هكذا زمن، بعد أن كان ذاك الزمان زمان شبابنا الذي تنعمنا به بكل سعادة.. عشنا بأيامه الجميلة ببساطتها وشيطنتها و»لعانتها» وحب كبير تبادلناه سوية.
أعود بالأيام لمرحلة كنا فيها أطفالاً صغاراً في المدرسة وتحديداً المرحلة الابتدائية في مدرسة القضيبية، كنت وإخوتي من أبناء الحورة نشكل فريقاً من المحبة والشيطنة، نعم الشيطنة جزء من محبة كنا نعيشها في الفريج، المحبة أن تعشق أرضاً تغمست في ترابها وشربت من مياه بحرها وأكلت من رمله، والشيطنة أن تدافع عن كل ما يعني لك الكثير من البحر والرمل إلى الفريج وبناته وأولاده.
كان الضيف الذي يدخل الحورة عازماً على التعدي على بناتها أو بيوتها أو أي شيء يمس كرامة أهلها، يضع نفسه في خانة العدو ويباح الاعتداء عليه وتكسير ضلوعه حسب قانون أهل الحورة الطيبين، كانت «الفزعة» تلعب دوراً رئيساً في ثقافة عوائلها وارتباطهم دون نقاش، فهم يناصرون عيال فريجهم على «الحلوة والمرة».
كنا نتحرك كالسمك في البحر «سيرات» متصلة بعضنا ببعض كسمك الميد أو «المنجوس»، وهو سمك صغير الحجم يشبه «العفطي» لكنه قوي عندما يمر في سيرة تتكون من مائتين إلى ثلاثمائة سمكة دفعة واحدة، هكذا كنا ندافع عن أهلنا وفريجنا ولا نخشى أحداً، الجميل في ذلك الزمان الذي ينشده أبو العتاهية أنه بسيط بكل معنى الكلمة، بعيد عن تكنولوجيا جننت الكبير قبل الصغير، فلا وسائل اتصالات مثل «فيسبوك» و»واتس آب» كانت موجودة، ولا إنترنت ولا حتى وجبات سريعة، كانت السينما برنامجنا الأسبوعي، نعمل طوال الأسبوع لاستقطاع جزء من مصروف المدرسة ليصل المبلغ إلى روبيتين ندخل بها السينما مع «الشلة»، ومثلهم روبيتين للتكة أو صحن البرياني، ونصف روبية للبيبسي وأربع آنات للحب الرقي.
حياة بمنتهى البساطة توصلك إلى المتعة، تقضي أماسي ولا أروع مع «الربع»، وتشاهد فيلماً أعجبك وتتعشى وترجع البيت، كانت فترة الشباب عندما دخلنا سن المراهقة وبدأنا نهتم بأناقتنا المتواضعة ونسرح شعرنا على طريقة أبطال الأفلام العربية كمال الشناوي وأحمد رمزي وشكري سرحان ورشدي أباظة، وكانت «الجقلوه» هي السمة المميزة وإخراج نصف المنديل «الرمال» من جيب البنطلون دلالة على أن صاحبه «وخر عنه» مكسر قلوب العذارى.
تصرفاتنا كانت عفوية من شدة تأثرنا بأفلام السينما وأبطالها، كانوا مثلنا الأعلى في الحب والغزل وخاصة الأفلام الغنائية الرومانسية كعبدالحليم وماهر العطار وهو من غنى «افرش منديلك عالرملة» ومحرم فؤاد، والبعض كان لا يقترب من فريد الأطرش رغم أنه فنان وموسيقار كبير، لكنهم غير مقتنعين بشكله على أنه يصلح أن يكون نموذجاً لـ»دون جوان» لتقليده.
كانت هذه المرحلة مقنعة بالنسبة للكثير منا، لكنها مضحكة لجيل اليوم الذي لا يرضى إلا بالكثير من الطلبات على مدار الأسبوع، كنا نقطع الأميال سيراً على الأقدام بحثاً عن متعة مشاهدة فيلم لنجم تعشقه، وتتحين فرصة مشاهدته ولو لمرة واحدة، تجد اليوم أبناءنا يستمتعون بأفلام التلفزيون وليس السينما يشاهدونها بتقنية «ثري دي»، وهي تقنيات تتسابق الشركات لتقديمها على شاشات عرض عملاقة في المنزل تجاوزت 80 بوصة.
كانت المكتبة تشكل بالنسبة لنا صديقاً لا يمكن أن يمر اليوم دون أن نطرق بابه، والمكتبات التي نرتادها باستمرار مكتبة الماحوزي وبعدها افتتح الصديق حسين الذهبة مكتبة مقابل دكان بشير أطلق عليها مكتبت المعرفة، وكان الناس لابد أن يمسوا على دكان بشير بعد جولة طويلة في دواعيس شارع الشيخ عبدالله وباب البحرين ومحلات «الشربت» إن كان لومي أو حلبيب ورد، كنا نتكدس أمام المكتبة كل خميس بانتظار وصول شحنة مجلات المصور المصرية وآخر ساعة وروز اليوسف وصباح الخير وحتى الكواكب وسمير وميكي، أما المجلات اللبنانية فقد كانت الحوادث والصياد والشبكة والموعد.
كان من يظفر بعدد جديد وصل للتو من البريد يهرول فرحاً عائداً إلى الحورة، وقد يقرأ العدد وهو لم يتجاوز المستشفى الأمريكي، كانت القراءة تشكل جزءاً مهماً من حياتنا، اليوم لا يقوى هذا الجيل على قراءة الصحف حتى من الإنترنت.
مشوار السوق نقطعه مرتين في اليوم من الحورة إلى المنامة، وإذا احتجنا بعض الدفاتر فإنه يكون مشوار ثالث ولا نشعر بملل أو تعب فالرياضة كانت حياتنا بعد المدرسة، والبحر جار لا نفارقه، إما للصيد أو السباحة ، وكما كانت تنشد السيدة فيروز «نحنا والقمر جيران»، كنا نعدل على كلمات الأغنية «أحنا والبحر جيران».
الرشفة الأخيرة
«تبي الزمان اللي مضى يازين.. يرجع ونرجع من جديد أصحاب»، كانت فترة جميلة جمعت أضلاع الأغنية البحرينية في الكلام الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة، الذي كان يرسم لوحات مغناة تتحدث عن فرجان ودواعيس المحرق وسواحل البحرين، تشتم منها رائحة الفرجان وسواحل البحر، والفنانين محمد علي عبدالله وأحمد الجميري وإبراهيم حبيب، فهل كان أبو العتاهية ينشد عودة ذاك الزمان للفرجان والمحبة والأغنية.