شدد علماء وشيوخ دين على «جدوى التفكر في خلق الله للإنسان»، موضحين «أهمية هذه العبادة المنسية، فلا يخفى على صاحب البصيرة أن التفكر مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، لكنهم جهلوا حقيقته ومصدره وكيفيته».
وأوضحوا أن «قيمة التفكر في خلق الله للإنسان عظيمة، لأنها تلزم المرء أن يقيس ما يعرفه من خلق الإنسان بما لا يعرفه، كما إنها تعالج شكه باليقين، فلا يسترسل مع وساوس الشيطان، بل يظل باحثاً عن الحقيقة حتى يكتشفها، ومن هنا جاء الخطاب الإلهي الكريم يدعو أبناء البشر للنظر والتفكر في خلق الإنسان، لأننا كلنا مسؤولون عن معرفة الحقيقة والوصول إلى درجة اليقين من الإيمان بالله تعالى، فإلى جانب البصر ينبغي أن ينور الإنسان بصيرته، ولما سئل الإمام علي رضي الله عنه: «كيف عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، أي من خلال آيات ربي، وعرفت مراد ربي بمحمد صلى الله عليه وسلم». وكان لقمان يطيل الجلوس وحده فكان يمر به مولاه فيقول: «يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنس لك»، فيقول لقمان: «إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة». وعن ابن عباس قال: «ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب..» وقال أحد التابعين: «لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا خالقهم».
خلق آدم
وأضاف العلماء «لا شك أن خلق سيدنا آدم عليه السلام فيها من العبر والعظات، فالله خلقه من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاءت صفات البشر متنوعة بتنوع صفات الأرض، فكانت منهم الشخصية السهلة كالأرض الخصبة، وكانت الشخصية الصعبة مثل الأرض التي لا تنبت زرعاً، وكذلك الشخصية الصلبة العنيدة مثل الأرض الصخرية، فتنوعت صفات البشر بتنوع صفات الأرض التي قبض منها من جميعها آدم، وجاء منهم الأبيض والأسود والأشقر على اختلاف درجات ألوانها».
وذكروا أن «تدرج خلق سيدنا آدم عليه السلام عظمة الخالق، فالله خلقه من تراب، ثم بل هذا التراب فأصبح طيناً لاذباً، ثم تشكل الطين اللاذب فكان صلصالاً، وعندما شكله الله تحول إلى صلصال من حمأ مسنون، ثم جف فصار كالفخار، ثم سواه الله ونفخ فيه من روحه فأصبح إنساناً يسمع ويرى، ولا شك أن خلق الإنسان يجمع ما بين الضعف والتكريم فالضعف لأنه من شيء مهين ضعيف، والتكريم لأن الذي خلقه ونفخ فيه من روحه هو الخلاق العظيم، وبالتالي فمن أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً لا مجال له للتكبر وإعلان العصيان على خالقه».
خلق الإنسان
وتطرق العلماء إلى «حقيقة التفكر في خلق الإنسان وما يمثلها من عظمة الخالق سبحانه، والمراحل التي تمر بها نشأة الجنين، استناداً إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد». وهذا الحديث يدل على أن خلق الإنسان يتم في مرحلتين:
أ- مرحلة التخلق الأولى «مرحلة الحمل»: وتشمل: النطفة والعلقة والمضغة، وتخلق العظام ثم كسوة العظام باللحم «العضلات»، فالجنين في الأربعين يوماً الأولى يمر بما يلي:
1- مرحلة النطفة: خلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات، ولا يصل من ماء الرجل من بين 500 مليون حيوان منوي إلا 500 حيوان منوي ويخترق حيوان منوي واحد فقط منهم البويضة، ويحدث عقب ذلك مباشرة تغير سريع في غشائها يمنع دخول بقية الحيوانات المنوية، ثم تتكون النطفة الأمشاج أي البويضة الملقحة.
2- مرحلة العلقة: تستمر الخلايا في الانقسام والتكاثر بعد مرحلة النطفة، ويأخذ شكلاً يشبه العلقة، كما تعطي الدماء المحبوسة في الأوعية الدموية للجنين لون قطعة من الدم الجامد وإلى هذا تشير الآية الكريمة (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَة).
3- مرحلة المضغة: وتبدأ بظهور الكتل البدنية إلى مؤخرة الجنين. ويأخذ الجنين شكل قطعة اللحم الممضوغة. مطابقاً لما ورد في الآية الكريمة: (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).
4- مرحلة تكون العظام: يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله، تطبيقاً لقوله تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا).
5- مرحلة الكساء باللحم: تتميز هذه المرحلة بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها، تصديقاً لقوله تعالى: (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك.
ب- مرحلة النشأة خلقاً آخر: تستغرق هذه المرحلة فترة زمنية يدل عليها استعمال حرف العطف «ثم» الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقاً آخر، فقال تعالى: (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، وفي خلال هذه المرحلة يبدأ تكوين الجنين وتبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال، ويتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية، كما تتمايز الأطراف، ويظهر الشعر على الجلد، ويتم نفخ الروح، ثم تأتي مرحلة القابلية للحياة عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلاً للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلاً لضبط حرارة جسم الجنين، ويدخل الجنين بعد الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة للنمو، ثم تأتي مرحلة المخاض بعد مرور 9 أشهر قمرية وتنتهي بالولادة، وتمثل هذه المرحلة التخلي عن الجنين من قبل الرحم ودفعه خارج جسم الأم، قال تعالى: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)».
وفي هذا الصدد، أوضح العلماء أنه «لابد من التفكر في عظمة الخالق في خلقه لهذا الإنسان الضعيف وكيف تتم هذه المنظومة المتكاملة وفق إرادة المولى عز وجل».
وخلص العلماء إلى «ضرورة التأكيد على التفكر في خلق الإنسان وأنها من أشرف العبادات لله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، والمواظبة عليها تورث ملكة التفكر والاتعاظ ودوام التوجه إليه تعالى، فالإنسان يستطيع في ساعة واحدة من التفكر الصحيح المثمر تغذية أسس إيمانه وتقويته، فتبرق في نفسه أنوار المعرفة وتومض في قلبه المحبة الإلهية».